Saleem Zaroubi        سليم زاروبي
  • Home
  • Research Interests
  • Publications
  • Teaching
  • Popular Articles
  • مقالات عربية
  • مقابلات ومحاضرات
  • Blog

بين الحقيقة والنظرية: البابليون، خسوف القمر والكورونا

4/9/2020

 

أتطرّق في هذا المقال الصغير إلى سؤال هامّ يتعلّق بكيفيّة فهمنا للواقع حولنا. ستكون الأمثلة الأساسيّة التي استحضرها مستقاة من أزمة الكورونا والنظريّات العجيبة التي يتناولها الناس لتفسيرها. لكنّي في البداية استذكر قصّة من تاريخ إمبراطورية بابل القديمة، أستعين بها لإيضاح بعض النقاط.

 

كان لخسوف القمر أهميّة كبيرة في الحضارات البابليّة والآشوريّة القديمة، إذ كانت الناس تؤمن أنها تعبّر عن غضب الآلهة منهم، وبالذات من مَلِكهم. لهذا كانوا يُعدمون الملك ويقدّمونه تضحيةً للآلهة عند حدوث الخسوف، لعلّ ذلك يرضي الآلهة فتكفّ غضبها عنهم. لكن في حوالي القرن الخامس أو السادس قبل الميلاد، قام فلكيو بابل باكتشاف عظيم، وهو أن خسوف القمر يتكرّر كل 18 عامًا و11 يوما و8 ساعات تقريبا. تُعرف هذه الدورة في علم الفلك باسم دورة ساروس.

 

قد يظهر اكتشاف دورة ساروس كشيء بسيط لأول وهلة، لكنه في الحقيقة تطلب رصدًا شديد الدقّة لحركة القمر نتج عنه قياس طول الشهر القمريّ. فعلى سبيل المثال، استطاع الفلكي نابو-ريمانو أن يقيس طول الشهر القمريّ بدقة مذهلة، حيث توصل إلى أنّ طوله 29.530641 يومًا، بينما القياس الحديث يعطينا الطول 29.530589 يوما (أي بفارق أقل من خمس ثواني). هذه المعطيات عن طول الشهر القمري ودورة ساروس، إضافة إلى عدة اكتشافات من هذا النوع، مهّدت الطريق أمام البابليين إلى وضع تقويم متكامل كان له تأثير كبير في العالم القديم. وهذا يعني أن البابليّين كانوا أول من اكتشف نظرية علميّة ذات طابع رياضي، لها جمال وقوّة هائلان، وذلك قبل أيّ حضارة أخرى بقرون عديدة. 

 

شكّلت دورة ساروس دليلًا واضحًا على أنّ خسوف القمر يتبع دورة ثابتة طبيعية، وأنّ غضب الآلهة أو رضاها ليس له أية علاقة بها. لكن هذا الدليل القاطع لم يغيّر إيمان الناس، ولم يقنعهم بأنْ لا دخل للآلهة بخسوف القمر الذي كان سوف يحدث بغضّ النظر عمّا إذا كانت هذه الآلهة غاضبة أم راضية. من المفارقة في الأمر أن الناس أصبحوا يستعملون دورة ساروس لحساب موعد الخسوف القادم لكي يبدلوا الملك بشخص آخر من الممكن الاستغناء عنه (مجرم قابع في السجن مثلا). حيث يرسمون هذا الشخص ملكًا عليهم ليقوموا بإعدامه مباشرة بعد حدوث الخسوف وذلك لاسترضاء الآلهة، ومن ثم يعيدون الملك الأصلي إلى عرشه.

 

 تُجسّد هذه الحادثة التاريخيّة التناقض الذي يواجهه الناس في كثير من الأحيان بين معتقداتهم وقناعتهم من جهة والحقائق الموضوعيّة من جهة أخرى. لكن إذا تمعنّا فيها، نجد أنّ تفاصيل القصّة تقول لنا أكثر بكثير من مجرّد هذا التناقض. الشيء الأول الذي نتعلّمه منها هو أنّ المعرفة العلميّة هي حاجة ماسّة في كلّ المجتمعات، وأنّ الذي يفصل بين المجتمعات المتقدّمة والمجتمعات المتأخّرة هو الدافع لدى الأولى بالسيطرة على مصيرها، وفي فهمها أنّ أحد أهم الأدوات للسيطرة على هذا المصير هو المعرفة العلمية. وهذا يذكرنا بما نحياه الآن، إذ لا يختلف اثنان على أنّ الطريقة الأساسيّة لمحاربة الكورونا هي المعرفة العلميّة حول هذا الفيروس (مبناه، كيفية انتشاره، طرق تخفيف العدوى به، وإيجاد تطعيم أو دواء له). لهذا لا يوجد مجتمع أو دولة لا تحتاج إلى هذه المعرفة العلميّة الصرفة الآن. لكن ليس بمقدور كلّ مجتمع أو دولة إنتاج مثل هذه المعرفة. فهناك دول تنتج مثل هذه المعرفة، وهناك دول، مثل دولنا العربية للأسف، تنتظر أن يجد غيرها الحلّ لكي تتبعه.

 

العبرة الثانية البارزة في قصّة دورة ساروس هو أنّه من الصعب جدًّا تغيير معتقدات الناس حتى حين نواجههم بالحقائق الدامغة التي تناقض هذه المعتقدات. بعد اكتشاف دورة ساروس، كان الاستنتاج المنطقيّ من ورائه أنّه لا توجد علاقة ما بين الخسوف والآلهة، لكن هذا لم يحدث، بل بقي البابليون على إيمانهم بأنّ الخسوف يدلّ على غضب الآلهة. هذا في الحقيقة يميز الغالبية الساحقة من الناس، لا البابليين القدماء فحسب، إذ هم عادة لا يغيّرون معتقداتهم وآراءهم أمام الحقائق والدلائل، بل ببساطة يتجاهلون هذه الدلائل.

 

نرى هذه الظاهرة بوضوح في سياق جائحة الكورونا. مثلا، هناك اعتقاد عند الكثير من الناس أنّ المرض هو نتيجة مؤامرة، وهذا ينبع جزئيًّا من شعور عميق لدى الناس بأنّ المؤامرات تحيطهم في كلّ مكان. فهي إمّا مؤامرة أمريكيّة لضرب الاقتصاد الصينيّ، أو صهيونيّة لضرب إيران، أو صينيّة لضرب أمريكا، أو مؤامرة من قبل شركات الأدوية لتسويق تطعيم ضدّ مرض لا نعرف عنه شيئًا تقريبًا، وإلى ما ذلك من نظريّات عجيبة كلّ واحدة أغرب من سابقتها. لكن في المقابل أيضا، في كلّ مرة نفحص فيها الحقائق المتعلّقة بالمرض وانتشاره، تدحض المعطيات هذه النظريات. لكن للأسف هذا لا يساعد، لأنّ هذا الوباء في أعين الكثيرين لا يمكن أن يكون إلا مؤامرة، ولتذهب الحقائق إلى الجحيم.

 

لا أنكر طبعًا أنّ هناك مؤامرات مختلفة تحدث في إطار السياسة الدوليّة أو المحليّة أو غيرها من مجالات الفعاليّات الإنسانيّة التي تتضارب بها مصالح الناس. فمثلا لا شكّ أنّ صفقة القرن مؤامرة تهدف إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة، أو أنّ العدوان الثلاثيّ على مصر عبد الناصر عام 1956 كان مؤامرة (لدينا وثيقة واضحة تثبت ذلك)، وإلخ... لكنّ للمؤامرة شروطًا أهمّها ليس فقط أنّ لأصحاب المؤامرة هدفًا واضحًا، بل أنّهم كذلك يستطيعون السيطرة على، أو على الأقلّ توقّع، سيرورة الأمور بشكل واضح بحيث يصلون إلى هدفهم المنشود. في حالة وباء الكورونا لا يستطيع أحد أن يتنبّأ ماذا سوف يحصل في نهاية المطاف، وبالذات تأثير هذه الجائحة على الاقتصاد العالميّ وعلى المبنى الاجتماعيّ والسياسيّ في كلّ الدول. ردود فعل الدول، المرتبكة غالبًا، هي الدليل الأكبر على ذلك.

 

مصدر هذا الفيروس هو على الأرجح طبيعي، هكذا تشير أغلب الدلائل، إذ أنه من عائلة فيروسات التاجيّة الموجودة في الطبيعة، مثل فيروس الـSARS-CoV الذي ضرب الصين في أوائل سنوات الألفين ومصدره خفاش حدوة الفرس. وحتى إذا كان هناك احتمال ضئيل جدًّا بأنّ أحدًا ما أنتج الفيروس مختبريًا (أنا لا أعتقد ذلك بتاتا)، ومن ثم وضعه عمدًا أو سهوًا في سوق مدينة ووهان الصينية في نهاية عام 2019، فهذا يجعل سبب الوباء إهمالًا أو عملًا إجراميًّا، لكن ليس مؤامرة. لأنّ المؤامرة، كما ذكرت سابقًا، تتطلب أن يملك المتآمرون قدرة السيطرة على، أو توقُّع، سيرورة الأمور ومجريات الأحداث لضمان نجاح مآربهم، وهذا غير قائم أبدا في حالة الوباء الحالي.

للأسف، وكما ذكرت سابقًا، هناك جزء من الناس الذين لا تُبلبلهم الحقائق أو التحليلات المنطقية، فهم يعلمون بواسطة "قواهم الخارقة" أنّ هذه الجائحة هي نتيجة مؤامرة لا شكّ فيها. أية مؤامرة؟ هذا السؤال ليس مهمًّا، المهم أنها مؤامرة، ولتحترق الحقائق وليمُت المنطق.

 

انتقل الآن إلى الموضوع الآخر الذي تتناوله قصة دورة ساروس والبابليين، وهو ما فعله الناس عندما علموا بهذه الدورة. يحتاج هذا إلى تحليل أكثر دقة وإلى التمييز بين جانبين. الجانب الأول هو أن الناس كانت على استعداد لقبول الجانب العملي من الاكتشاف الجديد بشرط ألّا يمسّ هذا إيمانهم ومعتقداتهم كثيرًا. فهم على استعداد أن يتقبّلوا مثلًا أنّ الآلهة ليس غاضبة على تصرفات مَلِكِهم، بل هي غاضبة على الشخص الذي يعبّئ كرسيّ الملك عند الخسوف، بغضّ النظر عمّا إذا كان هذا هو الملك الحقيقي أم لا. نستطيع بسهولة أن نتخيّل كيف من الممكن إقناع الناس بذلك، على الرغم من أنهم لو فكروا قليلا لَأدركوا أن قبولهم لتبديل الملك يعني أن آلهتهم حمقاء لا تستطيع التمييز بين الملك الحقيقي والملك البديل.

 

قبول الجانب العلمي بشكل جزئيّ هو أيضا ما نراه في التعامل مع وباء الكورونا. على سبيل المثال، هناك الكثيرون ممّن يعتقدون أنّ وباء الكورونا جاء ليعبّر عن غضب ربانيّ لا بدّ منه (بعضهم حتى ادّعى أنه غضب رباني على الصين، لكنهم تجاهلوا ماذا سيفعل هذا الوباء في مجتمعاتهم حين يصل إليها)، لكن هذا لا يمنعهم مثلا من الانصياع لنصائح العلماء بضرورة الحجر الصحي والابتعاد الاجتماعي. أي أنهم يقبلون الفهم العلمي ما دام هذا الفهم لا يتناقض مع معتقداتهم.

 

الجانب الثاني الذي أودّ أن أشير إليه هو أن هناك من استغل المعرفة التي وفرتها دورة ساروس، ألا وهو الملك الحقيقي. فقد أقنع هذا الملك الناس أن عليهم أن يُبقوه في سدّة الحكم وأن كل ما عليهم فعله هو أن يستبدلوه لبضعة أيام، حتى يأتي الخسوف ويأخذ معه الملك البديل. هذا أيضا يحدث في زمن الكورونا، فهناك من يستغلّ الأزمة ويحسن أوضاعه، أو ليخدم برنامج ورؤية سياسية أو اقتصادية معينة. وهنا أيضا يجب أن نُفرّق بين من تأتيه الأزمة بفرصة لتحسين أوضاعه لمجرد أنّ لديه ما تحتاجه الناس خلال هذه الأزمة. على سبيل المثال الشركات التي تصنع الكمامات، أو مواد تطهير اليدين، أو تلك التي توفر وسائل اتّصال سهلة عن طريق الإنترنت (مثل شركة Zoom).

ولكن أيضا هناك من يستغلّ الأزمة ليفرض قواعد لعبة جديدة تخدم مصالح معيّنة وتضرّ بالغالبيّة العظمى من الناس. على سبيل المثال، استعمال وسائل الإلكترونّية، مثل التليفونات الخلويّة، لمراقبة المواطنين كما قرّرت دولة إسرائيل أن تفعل، حري بأن يثير الرعب في قلوبنا جميعًا. وممّا لا أشكّ فيه أنّ النخب الحاكمة في أغلب الدول، وبالذات الدولة الرأسمالية الشرسة، سوف تستغل كلّ قطرة توفّرها لها هذه الأزمة بشكل بشع، لكن هذا لا يتعلّق بموضوع العلاقة بين الحقيقة والنظرية وسأتناوله في موقع آخر.

 

ذكرت في بداية هذا المقال أنّ عند التناقض بين الحقائق الموضوعية والمعتقدات يكون المنتصر دائما الحقيقة الموضوعية (كما في قصة دورة ساروس). ما يميز الطبيعة وقوانينها أنها لا تحسب حساب معتقداتنا ولا مواقفنا الدينية والفكرية والسياسية. برز هذا في مواقف بعض القيادات الغربية المتطرفة مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون اللذين ارتأيا أن الحفاظ على الاقتصاد هو أهم ما يجب فعله، أما فيروس الكورونا فمن الممكن تجاهله أو تحمّل نتائجه. فقد وقف بوريس جونسون أمام شعبه وطلب منهم وداع أحبائهم (قصد المسنين، على أغلب الظنّ)، هذه الموقف الذي يقرّر فيه زعيم دولة من أغنى دول العالم أن يتنازل مسبقًا عن حياة سكان دولته المسنّين، لأن الاقتصاد بالنسبة له أهمّ من حياتهم، هو موقف مرعب وإجراميّ. كذلك الأمر بالنسبة لموقف الرئيس الأمريكي المعتوه الذي رفض أن يقبل في البداية أن المرض وباء جديّ سوف يقضي على حياة الكثيرين ونصح شعبه بالسفر في الطائرات والقيام بالأعمال العاديّة لأن الكورونا "مجرد انفلونزا".

 

كذلك الأمر لا تأخذ الطبيعة بعين الاعتبار ما إذا كان الشخص يصلّي كثيرًا أم قليلًا، أو يتبع لهذا الدين أو ذاك، فالفيروس، إن اقتربت منه، لن يتعامل معك بشكل مميز عن باقي البشر. فقد سمعنا مثلا عن نصائح الكاهن القبطي الذي طلب من رعيّته أن تلزم بيوتها وتتوقّف عن الاقتراب من بعضها البعض، لكنه أصرّ على أنّ هذا لا ينطبق على يوم الأحد والصلاة في الكنيسة لأن الله يحميهم خلالها. مثل هذه المواقف، وهي للأسف كثيرة، تعكس مدى الجهل العميق في كيفيّة عمل الطبيعة، يبرز هذا الجهل عندما يضع أمثال هذا الكاهن معتقداتهم فوق ما يقوله العلم وفوق دروس الواقع المرير وبالتالي يشكلّون خطرًا على الرعيّة التي تثق بهم وتصدّقهم. أو في موقف ذلك الشيخ الذي يدّعي أنّ الكورونا أتت عقابًا للصينيين على معاملتهم للأقليّة المسلمة فيها. أين هذا اليوم الادّعاء بعد أن تفشّى المرض في الدول العربية؟ من الأفضل أنّ لا نُقحم الله في هذا الفيروس لأنّه إذا كان هذا من فعل الله فمن الصعب أن نفهم كيف يسمح إله رحيم ومحبّ لوباء كهذا أن يقتل الناس من غير تمييز، وبالذات الفئة المسنّة منه التي هي أكثر فئة إيمانًا.  مثل هؤلاء لا يختلفون بقيد أنملة عن البابليّين الذي رفضوا الحقيقة البسيطة أنّ الخسوف لا علاقة له بآلهتهم.

 

هناك ادّعاءات أخرى كثيرة تناقلها الناس تُبيّن أغلبها الجهل العميق الذي يعيشه بعض الناس فيما يتعلّق

بالتفسيرات العلميّة وكيف نصل إليها. هذا للأسف يعكس حالة يعيشها البشر منذ مدّة كبيرة وهي حالة رفض العلم والاستنتاجات العلميّة. فنحن نعيش في العقود الأخيرة في جوٍّ واضح من انحسار العقلانيّة والتشبّث بالغيبيات والشائعات والتفسيرات السطحيّة ورفض العلم والحقائق في كلّ ما يدور حولنا. وما فعله هذا الوباء أنّه كشف لنا بشكل مأساويّ عمق هذه الحالة التي نعيشها، فلسنا نحن فقط في هذه المنطقة المنكوبة بالجهل من العالم، وإنّما هو الحال في كلّ مكان. لعلّ هذه النكبة بالرغم من مآسيها تذكّر البشريّة مجددًّا أنّ المعرفة هي أهمّ أدواتنا التي نشكّل بها مستقبلنا، كما لعلّها تعلّمنا من جديد أنّ العقل والمنطق والحقائق الموضوعيّة هي الأساس المتين الذي نبني عليه معتقداتنا وأفكارنا، وليس العكس. فالويل لنا إذا لم نتعلّم الدروس الصحيحة من هذه المأساة. 

أسامينا!

1/11/2020

 

"لماذا سمّوك سليم؟"، سألتني صديقة قديمة كنت التقيتها في مقهى.

 

نظرت إليها مندهشاً بعض الشيء؛ فأنا لم أفكر في هذا السؤال منذ زمن بعيد. تبسمتُ لبرهة ثم أجبت، "لم يكن من الممكن أن يُسَمّوني إلا سليم". 

 

"كيف هذا؟ أهو اسم جدك؟"، تابعت صديقتي.

 

عدّلت جلستي وأجبتها والبسمة تعلو وجهي: "أجل، وأنا الابن البكر في العائلة، ولكن هذا جزء من سبب تسميتي بهذا الاسم!".

 

استرسلتُ أفكر في سؤالها. فقد كنت أعتقد، في صغري، أنهم اختاروا اسمي لجمال معانيه مثل "سالم"، "صحيح" و "كامل"، إلخ، لكني سرعان ما فهمت أنه حتى لو كان اسمي يعني "مختلٌ عقلياً" و "عليل" و "سقيم"، لما كانوا أسموني إلا به. فجدّي لأبي اسمه سليم، وخال أبي الذي ساهم في تربيته بعد أن توفي أبوه وهو صبي كان أيضا سليم، وجد أمي من جهة أبيها سليم، وجدها من جهة أمها أيضا سليم، وخالي الكبير كان يجب أن يسمى سليم (لكنهم بعد أن "فتحوا له" قرروا أن يسموه سمير). أي أن تسميتي بهذا الاسم كانت لها حتمية، مثل قانون الطبيعة الذي لا مناص منه.

 

سرحتُ أفكر بهؤلاء الأجداد الذين لم أعرف معظمهم، لأن أغلبهم كان قد توفي قبل ولادتي، لكّن لكل منهم أثراً على طفولتي ونشأتي. فجدي لأبي، الذي سميت باسمه كان قد توفي في عام النكبة وهو في ريعان العمر من جرّاء مرض، بينما كان أبي صغيرا لم يبلغ الـ 14 ربيعا بعد. وكثيراً ما تفكّرت بحجم المأساة التي مرت على عائلة أبي التي تيتمت من الأب والوطن في العام نفسه. ولطالما كان أبي يردد القصص القليلة التي كان يعرفها عن أبيه الذي كان تاجراً في جسر المجامع؛ وهو اسم قرية فلسطينية مهجرة تقع قرب الجسر الذي يحمل الاسم نفسه ويقع في نقطة الحدود المثلثة بين الأردن وسوريا وفلسطين التاريخية، وفيها يجتمع نهر اليرموك بِنهر الأردن (قريبا من ينابيع الحمّة). كان أبي يسرد هذه القصص وكأنها أساطير عن أحد الفرسان النبلاء، فكانت فَرِحَةً مليئةً بالرومانسية والمبالَغة الجميلة. لكن حين كبرت أصبحت أدرك أنّ هذه القصص الفَرِحة تخبئ في طياتها حزناً عميقاً وحنيناً مكبوتا وإنكاراً لمأساة حلت على صبي في أول عمره. وعندما كبرت أكثر أدركت أن هذا هو حال جيل النكبة كله، الذي لم يترك له حجم الكارثة سوى الحنين والحزن المكتوم و "تجاهل" المأساة التي كانت أكبر من أن تُسْتَوْعَب.

 

وقد كبرت أيضاً على قصص أبي عن خاله، سليم فرح، الذي لعب دور "شخصية الأب" بالنسبة لوالدي بعد وفاة أبيه. كان هذا الخال، كما يظهر، شخصية فذّه وطيبّة جداً أثّرت على جميع من عرفها بشكل عميق. كان سليم فرح الابن البكر لعائلة نصراوية عريقة؛ وهو الإبن البكر لراجي فرح الذي شغل منصب رئيس بلدية الناصرة لفترة قصيرة في بداية القرن العشرين. سافر سليم فرح إلى الولايات المتحدة للدراسة فحصل على شهادة البكالوريا (بي ايه) في الهندسة الزراعية من جامعة إلينوي ومن ثم الماجستير في الموضوع نفسه من جامعة كورنيل في ولاية نيويورك. وإثر انخراط الولايات الحرب في العالمية الأولى، عاد إلى البلاد، لأن شقيقه الذي لحق به إلى هناك وقع في حب فتاة أمريكية وتزوجها فوقع تحت طائلة قانون التجنيد العام للحرب، مما اضطر سليم إلى وقف تعليمه لشهادة الدكتوراه واصطحاب أخيه معه عائدين إلى البلاد كي يحميه من السفر والمشاركة في الحرب المستعرة في القارة الاوروبية. أما ما حدث لهذه المرأة الأمريكية وكيف انتهت حكايتها مع أخيه فهذا ما لم تذكره القصة العائلية التي دارت، في الأساس، حول "بطولات سليم فرح"، رغم أنني أعتقد بأنه كان بريئاً من محاولات تفخيم اسمه. فكما يظهر، كان شخصية وطنية فذة وصاحبة مبادئ، وقد ذكر شهادته أمام لجنة شو (Shaw Commission) الانتدابية عام 1929 الكاتب أكرم زعيتر في كتابه "بواكير النضال".

 

عند عودته إلى البلاد، انضم إلى الجهد العام في محاولة إنعاش الاقتصاد الفلسطيني وضَمِنَ مساحات كبيرة من الأراضي لزراعتها بالقمح. لكن الانتداب البريطاني قام باستيراد كميات كبيرة من القمح وبيعها بأسعار زهيدة لضرب اقتصاد الفلاح الفلسطيني، وكانت أشد هذه الضربات خلال ثورة 1936. نتيجة لذلك، خسر استثماره وأفلس، حتى أنه سجن لفترة لكن جدّي لأبي، سليم زاروبي، دفع ما كان مستحقا عليه من ديون وأخرجه من السجن، إذ كانت تربطهما علاقة صداقة وثيقة. بعد هذا أصبح سليم فرح إلى مرشداً سياحياً في المنطقة وانشغل يكتب عن فلسطين وقراها في كتابات لم تر النور، لأنه مات قبل أن ينشرها. وقد ذكر أبي أن خاله كان قد رفض الاشتراك في الوفد الذي وقع استسلام مدينة الناصرة عند احتلالها خلال النكبة، مع أنه كان أحد أعيان المدينة وابناً لعائلة كبيرة، كما رفض الخروج من بيته لعدة أشهر بعد هذه المأساة. 

 

ومن القصص الظريفة عنه، والتي حدثت خلال دراسته في ولاية نيويورك، أنه قرأ مقالاً كبيراً في احدى صحفها عن نسبة الطلاق في الإمبراطورية العثمانية، التي كانت الدول الغربية تسميها "الرجل المريض" آنذاك. في ذلك المقال، يشرح الكاتب لماذا تدل هذه النسبة (لم تذكر القصة الرقم) على الانهيار الأخلاقي للمجتمع العثماني ودولته! وما أثار حمية سليم فرح أنه في الصفحة نفسها التي نشر فيها هذا المقال كان هناك خبر معلوماتي عن نسبة الطلاق في الولايات المتحدة التي كانت ضعفيْ النسبة في الإمبراطورية العثمانية؛ فما كان منه إلا أن أرسل إلى الصحيفة رسالة رد على هذا المقال ذكر فيها أنه من مدينة الناصرة وأن الكتاب المقدس عند المسيحيين يقول "لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟"   (انجيل لوقا 41:6). فردّت عليه الصحيفة "إلى ابن الناصرة سليم فرح، يقول الكتاب المقدس عندنا: أمِنَ الناصِرَة يَخْرُجُ شَيْءٌ صالِحٌ؟" (انجيل يوحنا 45:1).

 

أما من جهة أمي فقد حمل جدّاها الاسم الأول نفسه، "سليم"، لكنهما كانا يحملان الاسم الثاني نفسه أيضا ــ "عاقلة". فقد كانا أبناء العم. كان والد جدي لأمي، نحيف القامة، أشقر الشعر، فاتح البشرة، مليئا بالنمش الفاتح وملوّن العينين، أمّا ابن عمه ووالد جدتي لأمي فقد كان ممتلئ الجسم، أسود الشعر، أسمر اللون، في وجهه عدة شامات سوداء وعيناه بنيتان. والطريف في الأمر أنه لكي يفرّق أهل الناصرة بينهما، لقبوا الأول لفتاحة لونه وكثرة نمشة بـ "سليم الأبرص"، ولقبوا الثاني لِدُكنة لونه وسواد شاماتِه بـ "سليم الأجرب". لقد توفي جد أمي الأشقر (جدها لوالدها) صغيراً قبل أن أولد أنا بكثير، وفي الحقيقة لم أسمع عنه الكثير من القصص. أما جدها الآخر (لوالدتها) فقد عاش حتى أصبح عمرة حوالي 105 أعوام، وهو الوحيد من هؤلاء الأجداد الذي أعرفه شخصياً. فقد توفي في بداية ثمانينات القرن الماضي. والقصص حول هذا الرجل، الذي كان يتمتع بقوة جسدية كبيرة وشغف شديد بالحياة، كثيرة تشبه قصص أبطال الأساطير الشعبية التي تكاد لا تصدّق. 

 

إحدى هذه القصص تتحدث عن تجنيده القسري من قبل الأتراك في بداية القرن العشرين في فترة سفر برلك، على الأغلب، وهي فترة التجنيد لخوض الحرب العالمية الأولى. لكنه قد يكون تجند قبل ذلك بكثير. وتذكر القصة كيف اشترك في معركة في البلقان والتي هُزِم بها الجيش العثماني ومات فيها معظم رفاقه. خلال تلك المعركة أصيب بشظايا في ظهره فما كان منه إلا أن غطّى نفسه بجثث الجنود التي حوله وافتعل أنه مات، وذلك لكي يهرب من ثمّ من الجيش التركي. وتذكر هذه القصة تفاصيل رحلة العودة التي عانى الأمرّين خلالها، من جوع وعطش ومخاطر، حتى عاد إلى فلسطين وبقي مختبئاً بين الجبال حتى زال خطر التجنيد. 

 

إحدى القصص المضحكة عنه هي أنه كان متجها من الأردن إلى فلسطين على ظهر حمار. وعندما وصل إلى نهر الأردن وهمّ بقطعه من مكان ليس فيه جسر، رفض الحمار أن يدخل إلى الماء. فما كان منه إلّا أن حمل حماره على كتفه وقطع به النهر إلى الضفة الأخرى، فأصبح يعرف بأنه "الرجل الذي حمل حماره".

 

كنت أعجب دائما بهذا الشخص الفريد الذي عانى القهر والتعذيب والفقدان والفقر. فقد رأى أهوال الحروب التي جند إليها قسراً بأم عينه وفقد أعز أصدقائه في معاركها وأصيب خلالها بثلاث شظايا بقيت في ظهره حتى مماته. وبعدها، عاد في رحلة مليئة بالمخاطر إلى وطنه وتزوج فماتت زوجته الأولى ومعها ثلاثة من أبنائه جراء مرض معدٍ خلال يوم واحد، ثمّ مرت عليه النكبة ومآسيها. لكني أذكره انسانا فرحاً محباً للحياة يجلس في المناسبات العائلية يغني ويفرح ويحتفل.

 

ما زلت أعجب من هؤلاء الذين عاشوا مآسي شعبنا على اختلاف انتماءاتهم، لكنّهم لم يقنطوا، بل تمسكوا بالحياة ورفضوا أن تهزم روحَهم حلكةُ الواقع، بل تعاملوا معه وحافظوا على حب الحياة والأمل في المستقبل.

 

في إحدى أغانيها الشهيرة تقول فيروز "عينينا هني أسامينا"، لكن في الحقيقة كثيراً ما تكون أسماؤنا هي حضارتنا وقصصنا وأساطيرنا وأبطالنا. فقد تحمل عيناي اسمي الحقيقي لكن مغزى ما تحمله عيناي أتى من هؤلاء الأبطال وهذا التاريخ الذي من دونه ليس هناك معنى للأسماء التي "تحملها عيوننا".

 

بعد قصتي هذه ودعت صديقتي مبتسماً وأنا شاكر في داخلي أنها لم تسألني من أين أتى اسم عائلتي. وهذه قصة أخرى. 

 

 

!الفاشية هنا

5/20/2018

 

كعنقاء الرماد الأسطورية، ينهض من عتمات الظلام القاتمة وخيبات الأمل المحبطة شعب أبى أن يموت، شعب خذلته قيادته، وأباحت دمه عُروش الخيانة والذلّ، ليتفرّد به وحش الفاشية الإسرائيلي الأرعن وعرّابوه ليحكّموا به آلة القمع والقتل. لكن العنقاء تُبعث من جديد في غزة، هكذا فعلت قبل ثلاثين عاما حين وُلدت الانتفاضة الأولى، وهكذا تفعل اليوم حين أعلنت حقّها في الحياة، وفي نفس الوقت، أعادت فتح حساب النكبة مع الحركة الصهيونية وإسرائيل.        

 

هناك عدة دروس نأخذها من هذه الأحداث؛ أوّلها وأهمّها، أن أنجع سلاح في أيدي الفلسطينيين هو نضالهم السلمي الذي يستقي قوته من حقّهم المشروع، وعدالة قضيتهم، وإصرارهم على إنسانيتهم. فعلى الرّغم من جرائم إسرائيل التي تنفطر لها القلوب، وألم الضحيّة ووجعها، إلّا أنّ الذي انتصر في هذه الجولة هو الحقّ الفلسطيني. سلاحنا هو ليس البندقية ولا المدفع ولا الدبّابة. وإنّما سلاحنا هو حقّنا وعزّتنا وإصرارنا على المطالبة به!

 

لقد خلعت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة المعتوه ترامب، ورقة التين التي تغطّي عورة تحيّزها الكامل وغير المشروط لإسرائيل وسياساتها الإجرامية. هذا الغطاء السياسي والعسكري والدولي، الذي يوفر لإسرائيل أفضل الظروف الإقليمية منذ قيامها. في الحقيقة، لا يمكن أن نتخيّل فترة سياسية في التاريخ مواتية لإسرائيل وسياساتها أكثر من الفترة التي نعيش، وعلى الرغم من هذا، ضحايا غزة العزّل يفضحون وحشية إسرائيل في جميع عواصم العالم. هكذا كان في الانتفاضة الأولى وهكذا الآن.

 

الحراك الشعبي في غزة هو حراك حقيقي يأتي من الناس، ولم يُفرض عليهم من أي سلطة سياسية أو اجتماعية أو دينية. على الرّغم من ادّعاء إسرائيل أنّ حماس تجبر الناس على التظاهر على الحدود، إلّا أنّ تقارير الصحافة العالمية والمؤسّسات الدولية الفاعلة في غزة توضح وبشكل لا يقبل التأويل، بأنّ الحراك هو حراك شعبي أصيل ينبع من عمق معاناة أهل غزة وواقعهم المأساوي. أي أنّ ما يغيّر الواقع ويتحدّى الظلم هو الناس وإجماعهم على العمل المشترك. هذا ما ميّز يوم الأرض والانتفاضة الأولى وغيرها من الأحداث المحورية النضالية في تاريخنا.

 

على صعيد العالم العربي هناك انهيار كامل في مواقف الدول التي أصبحت جميعها تقريبا ترى في القضية الفلسطينية عائق، وبعضهم يلوم الفلسطينيين على مأساتهم  ويدافع بشراسة عن جلّادهم. هذا الانهيار غير المسبوق في تاريخنا، يأتي على أنقاض انهيار الحركات القومية في العالم العربي، وبروز الصراعات الاقليمية والمحلّية التي تمزّقه. الإسلام السياسي الذي عرض نفسه كبديل للحركات القومية فشل فشلّا ذريعا في عرض حلول واضحة وفعالة. بل حوّل محور الصراع في المنطقة إلى صراع سني- شيعي لا تلعب به القضية الفلسطينية أي دور سوى أنّها تصرف النظر عنه. بل وأسوأ من ذلك، انبثقت عنه حركات إجرامية كالقاعدة وجبهة النصرة وداعش التي لا ترى قيمة للإنسان وحياته. هذا العمق العربي الذي طالما كان مهمّا للقضية الفلسطينية لم يعد موجودا، محقّقا بذلك حلما إسرائيليا قديما. لكن على الرغم من هذا أثبتت هذه الهبّة بأن القضية الفلسطينية ستبقى حتى وإن اختفى هذا العمق الاستراتيجي، لأنّها تستمدّ شرعيتها من شعبها ومن معاناته ونضاله على أرض الواقع.

 

وهناك القيادة الفلسطينية التي أعماها حبّها للسلطة وخذلت شعبها بشكل سافر وفقدت شرعية وجودها جملة وتفصيلًا. هذا أيضا حال حماس في غزة، لكن بشكل أقلّ، التي أيضا خذلت شعبها لأسباب عديدة، منها حبّها للسلطة من أجل السلطة، ومنها إيديولوجيتها الدينية السياسية التي تذهب أبعد بكثير من حدود القضية الفلسطينية. قد يكون هذا أكثر الجوانب المأساوية في ملحمة الشعب الفلسطيني, فبدل قيادة تستمد قوتها من عدالة قضيته، لتكون أكثر القيادات عزّة وعنفواناً، أنجبت القضية الفلسطينية سلطة الخنوع والتنسيق الأمني التي تصر على التمسك بعملية سلام زائف أثبتت فشلها وزال وقتها! ولكن على الرّغم من هاتين القيادتين قامت هذه الهبّة.

 

مع معطيات الوضع السياسي الفلسطيني والعربي والدولي المأساوية، هنا حالة مأساوية لا تقلّ فظاعة في هذه الأحداث، ألا وهي إسرائيل. فعلى الرّغم من آلتها الحربية الهائلة، ومؤسّسات الدولة المتقدّمة ومقومّات "المجتمع الحديث" التي تملكها، إلّا أنّها لا تعرف كيف تواجه متظاهرين عُزّلًا إلّا بفِرَق من قنّاصين، يقتلون كلّ من يسعهم قتله. هذا يشكّل وبوضوح منحًى جديدا وتعبيرا لا شكّ فيه لغوص إسرائيل في مرحلة الفاشية. هذه العملية التي ابتدأت منذ عشرين عاما تقريبا (منذ الإنتفاضة الثانية وأحداث عام 2000)، وأدّت إلى اختفاء "اليسار" الصهيوني الذي مثّل القيم الليبرالية في هذه الحركة، وإلى صعود اليمين الصهيوني المتديّن الذي يستقي مصداقيته من المصادر الدينية اليهودية واليمين الصهيوني العنصري الذي يمثّله أمثال نتنياهو وليبرمان، هذا اليمين الذي قرّر أن يحسم الصراع مع الفلسطينيين بالقوّة والبطش وإحلال نظام استيطاني دموي في المناطق المحتلّة، ويمارس تدميرا منهجيا للأسس القانونية للدولة التي يراها عراقيل أمام مخطّطاته، ليس فقط في الضفة وغزة وإنّما أيضا في داخل اسرائيل. هذا الانزلاق المجنون نحو الفاشية والعنصرية يقودنا جميعا نحو الهاوية. هذه هي بداية النهاية، وهي لا تأتي نتيجة للقوة السياسية للجانب العربي والفلسطيني بل بالعكس، فهي تأتي على الرّغم من ضعفه وخنوعه.

نحن ندخل مرحلة جديدة وخطرة، على قيادات الشعب الفلسطيني والقوى الديمقراطية الحقيقية في كل مكان، أن تكون حاضرة لها. إسرائيل التي قامت على أنقاض مجتمعنا أصبحت دولة فاشية، وهي ترفض أن تعترف بأيّ حقّ من حقوقنا كشعب له وجود شرعي، ولا تتردّد في استعمال أعنف الأساليب من أجل قمعنا. فهي تبني وبشكل منهجي نظام أبرتهايد عنصري أسوة بأسوأ الأنظمة العنصرية في التاريخ. وفي الحقيقة أنا لا أستبعد أن تحاول فيه تهجيرنا من جديد بحَملة تنظيف عرقي أسوة بما حدث في النكبة.

 

دور قيادتنا الفلسطينية في جميع أماكن وجودها وأطيافها الآن، هو الوقوف والتحدّي والتحضير لمواجهة أسوأ الإمكانيات والعمل لمنع حدوثها! الغمغمة والاحتراب في ما بينها على هذا الموقف أو ذاك يفقدان هذه القيادة مصداقيتها.

 

على نضالنا أن يكون شعبيا حقيقيا وإنّ ما يرشده هو إنسانيتنا، وحقّنا الأخلاقي والمبدئي كأصحاب الأرض الأصليين. هذا هو وجه هذه الهبّه وهذا هو وجه كلّ هبّاتنا التي وفّرت لنا إنجازات حقيقية.

 

لا أعرف إن كانت ستدوم شعلة هذه الصحوة أو تخبو قريبا. لكنّي أعرف أنّها ليست آخر الصحوات، فستظلّ هذه الصحوات قادمة موجة بعد موجة، وجيلًا بعد جيل، حتى تحطّم نيْر الظلم وتحقّق إنسانيتها وتنال حرّيتها المنشودة.

.                  المرأة هي المستقبل

3/8/2018

 


يُخيّل إلى معظمنا أنّ العنف أصبح في عصرنا لغةَ الحوار، وأنّنا قد استبدلنا حكم العقل والقانون بشرع الغاب لنقتل بعضنا في وضح النهار. كما يُخيّل إلينا أنّ شيئًا واحدًا لم يتبدّل فينا وبقي على حاله منذ أقدم الأزمان، فما زلنا نحتفظ بأشنع جرائمنا لنرتكبها بحق المرأة! كلّ شهر، تقريبًا، يأتينا خبرٌ يزعزع الأبدان، عن مقتل فتاةٍ في عمر الورد، جريمتُها التي لا تُغتفر أنّها أحبّت، أو امرأةٍ راحت ضحيةَ زوجها لأنّها أُجبرت على أن تبقى معه من قبل أقرب الناس إليها، وغيرها من أتفه الأسباب. وعند سماع الخبر نصرخ جميعًا بغضب واستنكار، متسائلين بذهول وحيرة: كيف يمكن لأبٍ أن يقتل ابنته، أو لأخٍ أن ينحر أخته، أو لزوجٍ أن يسلب أولاده أمّهم؟! إلّا أنّنا ننسى أنّ أشنعَ جريمة نرتكبُها بحقّ المرأة ليست قتلَ جسدها بل هي أذلالُ روحها وكبتُ طموحها وحدُّ حريّتها وسلبُ استقلالها. ذلك لأنّنا عندما نقتلها، تموت المرأة مرّة واحدة، ولكن عندما نقمعُها تموت كلّ يوم ألفَ مرة.


ولكن، هل هذا هو حقًّا كلُّ ما نراه يحدث حولنا؟


بالرغم من المقدّمة التي تبدو متشائمة، في الحقيقة، رسالتي في هذا المقال تعكس رؤيتي المتفائلة للمستقبل، وبالذات في موضوع المرأة ومكانتها في مجتمعنا الفلسطينيّ في الداخل. إذ إنّنا نشهد موجتين بارزتين من التغيير؛ فمن جهة، نشهد ازديادًا كبيرًا في التعامل غير الحضاريّ مع بعضنا البعض، ينحى في كثيرٍ من الأحيان إلى عنف أخلاقيّ، فكريّ وجسديّ، وبالذات ضدّ المرأة. لكنّنا نشهد من جهة أخرى هبّةً ثقافيّةً وفنيّةً واجتماعيّة وفكريّة غير مسبوقة تعكس قفزةً نوعيّةً عميقةً جدًّا تتبوّأ فيها المرأة موقعَ الصدارة، ووجودها في جميع أوجه هذه النهضة بارز وأساسيّ، وهذان، إلى حدٍّ كبير، وجهان لنفس العملة!


كي أبيّن ما أقوله فيما يتعلّق بالمرأة، أُعدِّد هنا بعض الظواهر والتغيّرات الأساسيّة التي لا يمكن إنكارُها، والتي تدلّ بشكل واضح على هذه الانطلاقة العامّة وعلى حصّة المرأة فيها. في العقود الأخيرة، ازداد دور المرأة في سوق العمل، وأصبحت نسبةٌ كبيرةٌ من النساء المعيلَ الثاني في الأسرة والذي لا يمكن الاستغناء عنه، وفي كثير من الحالات، أصبحت حتّى المعيلَ الأوّل. كما أنّ وجودها في سوق العمل تجاوز الأعمال العاديّة، فأصبحنا نراها رائدة في الإنتاج والإبداع والأعمال النوعيّة، تلك التي تحتاج قدراتٍ ومهاراتٍ خاصّة، فهي القاضية والعالمة والمعلّمة والأديبة والناشطة السياسيّة وصاحبة شركة الهاي تك والقائدة السياسيّة والمهندسة والطبيبة وغير ذلك. بل غدا وجودها في هذه المجالات حاصلًا بتسارع مذهل يثير الإعجاب، وجودٌ ملحوظٌ لا يقتصر على فئة اجتماعيّة، أو دينيّة، أو سياسيّة، أو عائليّة معيّنة، ولا على منطقة جغرافيّة محدّدة، بل نشهده في الجليل كما في النقب أو المثلث أو المركز.


أحد أبرز الأمثلة على هذا التغيير الجذريّ هو نسبة الطالبات العربيّات في الجامعات. إذ أذكر، منذ أيّام دراستي الجامعيّة في سنوات الثمانينات، أنّ عدد الطلاب العرب في معهد التخنيون كان حوالي ال-450 طالبًا، منهم ما لم يزد عن 120 طالبة، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الرقم ليس رسميًّا، بل كنّا نحصل عليه عن طريق إحصاءٍ تقوم به لجنة الطلاب العرب في كلّ عام، أي كانت نسبة الطلاب العرب في هذا المعهد لا تتعدّى ال 2.5 ٪ من الطلاب عامّة، ومن الطالبات حوالي ال 0.5٪ فقط. أمّا اليوم فنسبة الطلاب العرب تراوح ال-20٪، وأكثر من 50٪ طالبات (في السنة الأخيرة نسبة الطالبات العربيات الجديدات في التخنيون هي 60٪ من مجمل الطلاب العرب). هذا الرقم هو مثال عامّ لما يحدث في سلك التعليم العالي وفي جميع مجالات التعليم تقريبا؛ أي أنّنا في العقدين القريبين سنرى ازديادًا ملحوظًا لوجود المرأة في الوظائف والأعمال النوعيّة في المجتمع.


ونرى هذه التقدّم أكثر وضوحًا بين الأجيال الأصغر، أراه جليًّا في زياراتي للمدارس ومن خلال علاقاتي الشخصيّة (لدى أولاد الأصدقاء والمعارف)، ففتيات هذا الجيل ملتزمات بالتعليم بشكل واضح − وربّما كان هذا الأمر دائمًا صحيحًا − وهن ذوات طموح عال وأهداف كبيرة، يضعن أمام أنفسهنّ هدف تحقيق ذواتهنّ، بكلّ ما في الكلمة من معنًى، إذ يتجرّأن على رؤية الأحلام الكبيرة حدودها، غير مكتفيات بتكوين العائلات أو بتحقيق إنجازات صغيرة محدودة.


فضلًا عن ذلك، تشهد أيّامنا حركة ملحوظة وقفزة عظيمة، على صعيد عالم الكتّاب المحليّ، بعد ركود دام سنين طويلة، وأرى بهذه الحركة شهادة أخرى على هذه النهضة التي نعيشها. وللمرأة في هذه النهضة حصّة كبيرة، إن لم تكن حصّة الأسد. وقد يكون هذا مؤشّرًا أكثر أهمية من عدد النساء في المجالات المهنيّة المختلفة، أو من نسبة الطالبات الجامعيّات في المعاهد العليا، ذلك لأنّ الكتابة ليست مهنةً فحسب، بل هي تصريح جريء للكاتب يبسط من خلاله أفكاره للمجتمع ويطرحها كمنافس لقيادة المجتمع الفكريّة والثقافيّة. وبآليّة الكتابة تطلق هؤلاء الكاتبات صرخة تحدٍّ لسلطان الرجل على عالم الأفكار!


لا يمكن لهذا التغيير أن يحدث من دون شعور المرأة بتمكين الذات الذي ينبع من قوّة استقلالها الاقتصاديّ والفكريّ والاجتماعيّ، ومن إنجازاتها الفرديّة والجماعيّة، أي من شعورها العميق بالحريّة. ما يميّز ما نمرّ به هو أنّ هذه الحرية غير مصحوبة بشعور انعتاق واغتراب عن المجتمع، بل تعكس تغييرات أساسيّة وحقيقيّة يمرّ بها مجتمعنا بمجمل مركّباته وفئاته.


ليس غرضي من قولي هذا أن أجمّل الواقع، فأنا أوّل من يعترف بأنّنا ما زلنا في أوّل الطريق، إذ ما زال العنف بكلّ أشكاله، وبالذات تجاه المرأة، جزءًا من واقعنا اليومي الأليم. فمن ناحية، هناك عنف "باب الحارة" التقليديّ الذي يمارس ضدّ المرأة من قبل جزء من الرجال من منطلق قوّة، أو بالأصحّ، من منطلق وهم القوّة. ومن ناحية أخرى، نحن نشهد عنفًا من نوع آخر آخذ في الازدياد، عنفًا أشرس، يأتي من ضعف. هو ضعف الرجل التقليديّ الذكوريّ المغلوب على أمره إزاء التغييرات الجامحة التي تعتري مجتمعنا، في حين هو يتشبّث بمسلّمات وفرضيّات اجتماعيّة أكل عليها الدهر وشرب. يرفض هذا الرجل الذكوريّ الضعيف، أو بالأحرى العاجز، أن يلائم نفسه لهذا التغيير الذي يوجب رفع المرأة من مستوى "العورة" و"الوصاية عليها" إلى مستوى الندّ المكافئ. إذ هو، بحسب منطقه، يخسر "حقّه" الطبيعيّ في السيطرة في المجتمع، وذلك يزيده عنفًا، لا سيّما اذا كان ضعيفًا لا يدري ما يعمل!


ما تقدّم بالطبع لا يشمل كلّ الرجال، فمواقف الرجال تتراوح وتغطّي طيفًا رحبًا من الآراء والممارسات، تتراوح بين الرفض كليًّا لتحسين مكانة المرأة من جهة، إلى دعمها، قولًا وفعلًا، بدون حدود، من جهة أخرى. فكما في كلّ شيء في الحياة، الصورة مركبّة ومليئة بضروب وألوان مختلفة، ولا تقتصر على الأبيض والأسود. والحقيقة أنّ ما يثلج الصدر هو أنّ جزءًا كبيرًا من الرجال في مجتمعنا، بحسب تقديري، يحتضن هذا التغيير في مكانة المرأة ويشجّعه، بل ويرتقي ويتغيّر معه. وأرى أنّ النهضة الحاصلة في مجتمعنا لا تقتصر على النساء، بل تحدث في مجمل مركّباته، ولكنّ تطوّر مكانة المرأة هو أوضح الأمثلة على هذا التغيير.


الحريّة لا تتجزّأ، ولا يمكن لأحد أن يقصرها على فرد أو طائفة، أو عرق أو جنس. ومن يفعل ذلك فهو لا يملكها، و"حريّته" مجرد وهم وسراب. هذا ينطبق على المجتمع الذي يمنع الحريّة من شعب آخر، وعلى المتزمّت دينيًّا الذي يحاول فرض معتقداته على غيره، وعلى الرجل الذي يقمع المرأة، الخ. هؤلاء كلّهم عبيد عنصريّتهم (فئويّـتهم) وقيمهم المشوّهة وعاداتهم المتحجّرة، وهم مجرمون بحقّ غيرهم، كما هم مجرمون بحقّ أنفسهم (وطبعا أنا لا أُساوي بين الضحيّة والجلاد). هذا ما فهمه الكثير من المفكّرين ورجال السياسة العظماء. إذ لا يمكن لمن يمنع الحريّة عن الآخرين أن يكون حرًّا، كما لا يمكن لمن يقمع الإنسانية أن يكون إنسانيًّا. هذا صحيح في كلّ شيء، وبالذات في قضيّة المرأة وحريّتها.


أردت في هذا المقال القصير أن أشير إلى أنّه بالرغم من السواد الحالك الذي يحيطنا، هناك مصابيح نور عديدة تبعث الأمل. أهمّ هذه المصابيح وأكثرها إشعاعًا هي المرأة، التي في حصولها على حريّتها تُضيء لنا طريقَ المستقبل وتحرّرنا جميعًا من زنزانة تعصّبنا وتزمّتنا. ومع هذا، فما زالت هذه الطريق مزروعةً بالمصاعب ومليئةً بالتحدّيات والخطوات الفاشلة وحتّى المآسي. والاستمرار في هذا الطريق غيرُ مفهوم ضمنًا، ولا يأتي من دون صمود ومثابرة وإصرار وتضحيات. هذا هو ثمن الحريّة. ودورنا جميعًا هو دفع مسيرة حريّة المرأة إلى الأمام لأنّها أهمّ مؤشّر ونبراس ومحرّك في طريقنا نحو النهوض بمجتمعنا!

دليل الحيران بين الزمان والمكان

2/10/2018

 

النظرية النسبية الخاصة والثورة التي أحدثتها


"ما الزمان إذن؟ عندما لا أُسأل عنه، فأنا أعرفه؛ لكن إذا سُئلتُ عنه، فأنا لا أعرفه أبداً" هذا ما خَلَص إليه فيلسوف العصور المظلمة (الأمازيغي الأصل)، القديس أغسطينوس، في وصفه للزمن. وهو تلخيص يعبر عن شعور معظمنا عندما نفكر في هذا المفهوم. فالزمن هو ذلك النهر الجارف الجبار الذي لا يستثني شيئا ولا ينتظر أحدا، وهو الذي يمضي قدما حاملا معه الكون وكل ما فيه على عُباب تياره الجاري أبدا في اتجاه واحد. وهو ذلك الامتداد الذي نخطُّ على صفحاته أحداث حياتنا لحظة بعد لحظة، فهو محور وجودنا الذي نعيشه؛ نتفكّر الماضي ونحيا الحاضر ونترقب المستقبل. لكن هل هو موجود بالفعل؟ كيف يكون موجودا والماضي قد تولى والمستقبل لم يأت بعد والحاضر وميض لحظة تمر بلمح البصر؟ وإذا كان موجودا فما هو؟ وكيف علينا أن نفكر به؟


أسئلة مشابهة تواجهنا أيضا عندما نفكر في الفراغ؛ ذلك الحيز الهندسي الذي يحوينا، ويحوي معنا كل شيء في الكون. إنّه المسرح الذي تدور على خشبته أحداث الحياة، فنحن أبناء وبنات مكاننا وزماننا. ولكن هل الفراغ شيء حقيقي؟ أم قد ابتكرناهُ كأداة تسهل علينا فهم العالم حولنا؟ لنتخيل كونا فارغا إلا من جسم واحد، ماذا يعني عندها مكان الجسم؟ واضح أنه من الصعب أن نتحدث عن مكان مثل هذا الجسم الوحيد، فعادة، نحن نحدد موقع أي جسم نسبة للأجسام الأخرى التي حوله. لا نستطيع أن نعرف أيضا، ما إذا كان ساكنا أو متحركا بسرعة ثابتة. وماذا يحدث إذا كان الكون خاويا تماما، ماذا نعني عندها بالفراغ؟


شغلت هذه الأسئلة عن الزمان والمكان وجوانبها الفلسفية والفيزيائية والسيكولوجية العديدة، أعظم العقول على مرّ التاريخ. هناك إجماع بين الفيزيائيين والفلاسفة بأن الزمن والفراغ موجودان موضوعيا. فالزمن بحسب تجربتنا يسير برتيبة منتظمة وثابتة في اتجاه واحد؛ كذلك الفراغ، فهو مرتب بشكل منتظم وله ثلاثة أبعاد. والاثنان، الزمان والمكان، ينتجان بشكل طبيعي عن قوانين الفيزياء. ابتدأت دراسة الزمن والفراغ فيزيائيا بشكل عملي مع جاليليو الذي افترض أن وتيرة الزمن، مثلها مثل الأبعاد (في الفراغ) والكتل، هي شيء مطلق لا يتغير بتغيير المراقب وسرعته. فالزمن يمر بنفس الوتيرة بالنسبة لنا إذا كنا جالسين على كرسي في منزلنا، أم مسافرين على متن طائرة أو نعيش على كوكب آخر يقع على بعد ملايين السنين الضوئية في هذا الكون الشاسع كذلك الأمر بالنسبة للأطوال (البعد بين نقطتين) التي تبقى نفسها بغض النظر عن موقعها وبأي سرعة تسير، إضافة إلى ذلك، الزمن والفراغ بحسب جاليليو يمتدان من مالانهاية إلى ما لانهاية، فهما حقيقيان ومنفصلان عن بعضهما بشكل لا يقبل الشك. وعليه، ففي ميكانيكا نيوتن ،حيث الزمان والمكان هما حجران أساسيان، يفترض أنهما مُطْلقان و مستقلان عن بعضهما وعن وجود أي مراقب يرصدهما.


واجهت افتراضات نيوتن وجاليليو اعتراضات من بعض المفكرين وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز (Gottfried Leibniz)، الذي جزم بأن الزمن والفراغ لا يحملان معنىً من غير الأحداث والأجسام التي تشغلهما. من جهته، اعتقد إرنست ماخ (Ernst Mach) بأن مفهوم الزمن والفراغ المطلقين هما مفهومان ميتافيزيائيان ليس لهما مكان في الواقع لأنهما يقاسان دائما بشكل نسبي، أي نسبة لحدث وموقع معينين. على الرغم من هذه الاعتراضات بقي التوجه النيوتوني هو السائد بلا منازع في عالم الفيزياء والفلسفة، حتى أتى شاب يعمل خارج المعاهد الأكاديمية، في مكتب تسجيل براءات الاختراع في مدينة برن السويسرية، اسمه ألبرت أينشتاين، ليُطيح بمفاهيم جاليليو ونيوتن بعرض الحائط.


كتب أينشتاين سنة 1905، وهي سنة تعرف بالسنة الأعجوبة (Annus Mirabilis)، أربعة مقالات أحدَثَ كلّ منها انقلابا هائلا في المجال الذي يبحثه. المقال الأول بحث في التأثير الكهروضوئي (photoelectric effect) وفسر فيه ظاهرة انطلاق تيار كهربائي من مواد معينة حين تقع عليها أشعة الضوء، من ضمنها ما نسميه اليوم بالخلايا الشمسية. كان هذا المقال أحد أهم الأعمال التي مهدت الطريق لميكانيكا الكم (انظر مقالي حول هذا الموضوع بعنوان: "شيء من عدم"). المقال الثاني الذي نشره أينشتاين في هذا العام كان حول الحركة البراونية (Brownian motion) التي تصف الحركة العشوائية التي يشهدها جسم صغير يعوم في وسَطٍ سائلٍ أو غازيٍ. وقد بيّن أينشتاين أن مصدر هذه الحركة هو اصطدام هذا الجسم بجزيئات أو ذرات السائل، حاسما بهذا بشكل نهائي إشكالية وجود الجزيئات والذرات التي كانت محط شك لدى العديد من العلماء. أما المقالان الثالث والرابع فقد طور بهما نظرية النسبية الخاصة، التي قلبت مفاهيمنا حول الزمن والفراغ والمادة والطاقة وغيرها من الفرضيات المسلّم بها في الفيزياء الكلاسيكية. من الطريف في الموضوع أن أينشتاين مُنح جائزة نوبل عن المقال الأول (الذي يتعامل مع التأثير الكهروضوئي) وليس عن النظرية النسبية الخاصة بسبب الصعوبة في رصد عواقبها مخبريا. هذا مع العلم أن كل مقال من المقالات الأربعة لوحده كان يستحق مثل هذه الجائزة.


في هذا المقال سوف اتطرق باقتضاب إلى تاريخ النظرية النسبية الخاصة وأشرح فرضياتها الأساسية، كما وسأعرض أهم نتائجها وإسقاطاتها على فهمنا للطبيعة وأصف العلاقة الحميمة بين الزمن والفراغ (ما نعرفه بالزمكان) وخصائصهما. وأنهي بتساؤلات عن جوهر الزمن وعلاقته بالجاذبية التي دفعت بأينشتاين إلى اكتشاف النظرية النسبية العامة بعد عقد من الزمن.


تحويل جاليليو وسرعة الضوء:


وضعت نظرية بطليموس الكرة الأرضية، ومعها الإنسان، في مركز الكون. وافترضت بأن مركز الأرض ساكنا بحيث يتحرك كل شيء نسبة لها وتدور أفلاك السماء حولها. فهي تزودنا بفراغ مطلق، مِحْوره مركز الأرض (الثابت) ونهايته فلك مدار النجوم الذي يخطّ حدود الكون. لكن مع صعود نظرية كوبرنيكوس، خُلِعت الأرض عن عرش مركزيتها وتحولت إلى مجرد كوكب من بين الكواكب التي تدور حول الشمس. أدرك العلماء وعلى رأسهم جاليليو أن هذا التغيير الثوري يعني أن موقع المراقب للطبيعة وحركتها قد يغير رؤيته للكون ويعطيه انطباعا مختلفا لما هي عليه، وإلّا كيف نفسر شعورنا بأن الأرض ساكنة وهي في الحقيقة تدور حول الشمس بسرعة 30 كيلومتر في الثانية (حوالي 110000 كيلومتر في الساعة). لهذا ابتدأ الفيزيائيون الأخذ بعين الاعتبار موقع وسرعة وتَسارُع المراقب الذي يرصد تصرفات المجموعات الفيزيائية، وبشكل خاص، مراقب يسير بسرعة واتجاه ثابتين، وهو ما يسميه الفيزيائيون بِـ "الإطار المرجعي القصوري" (انظر الملحق 1 لبعض الإسهاب في هذا الموضوع).


هذا وقام جاليليو بعدة تجارب نتج عنها المبدأ التالي: تظهر قوانين الفيزياء مماثلة تماما بالنسبة لمراقبين يسيرون بسرعٍ ثابتة نسبة لبعضهم البعض. هذا هو قانون النسبية الذي استعمله أينشتاين ومنه أخذت نظريته واسمها ولكن جذوره في الحقيقة تعود لجاليليو. يجدر التنوية بأن هذا المبدأ غير صحيح بالنسبة لشخص يتسارع لأنه يشعر بقوى مجهولة المصدر مثل زيادة ونقصان الوزن التي نشعر بهما عندما نستعمل المصعد أو مثل القوة الطاردة عن المركز التي نشعر بها على المنحنيات ونحن نسوق السيارة. لمزيد من التفاصيل انظر الملحق 1.


فلنفكر الآن كيف يظهر جسم يسير بسرعة ثابتة إذا ما راقبه شخصان، يسير كل منهما بسُرعةٍ ثابتةٍ مختلفة. لتسهيل التفكير في هذا الوضع لنتخيل ثلاثة أشخاص، الأولى إمرأة تقف على الرصيف ساكنة، والثاني رجل يركب سيارة سوداء تسير بسرعة 30 كيلومترا في الساعة مبتعدة عن المرأة والثالث شاب يركب في سيارة بيضاء تسير بنفس اتجاه السيارة السوداء التي يركبها الرجل وتسير بسرعة 20 كيلومترا في الساعة بالنسبة له، أي بالنسبة للسيارة السوداء (كما في الصورة). ما هي إذن سرعة السيارة البيضاء التي يركبها الشاب بالنسبة للمرأة التي على الرصيف؟ من الواضح أنها 50 كيلومترا في الساعة. استعملنا هنا ما يعرف بتحويل جاليليو للسرعة وهو تحويل يقضي بأن السرعة، v بالنسبة للمرأة الساكنة تساوي مجموع سرعة السيارة السوداء التي تسير بسرعة ثابتة نسبة للمرأة، V، زائد سرعة السيارة البيضاء بالنسبة للسيارة السوداء، 'v (أنظر الرسم). أي أننا عندما ننتقل من إطار مرجعي قصوري لآخر، تتغير بالنسبة لنا سرعة الأجسام بحيث يجب أن نجمع أو نطرح السرعة النسبية بين الإطارين القصوريَيْن (’v= V+v). و تتماهى هذه النتيجة، المعروفة كما ذكرنا باسم تحويلات جاليليو، مع تجربتنا اليومية وبديهيّتنا الأساسية وهي أحدى الخصائص المركزية للميكانيكا الكلاسيكية.


يجدر التنوية بأن إحدى الصفات الأساسية لِتحويلات جاليليو هي أن الزمن مطلق، أي لا يتغير عندما ننتقل من إطار مرجعي معين لآخر.

Slide1.jpg

الضوء والأثير:


بقيت تحويلات جاليليو، حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، هي التحويلات المعتمدة من غير منازع بحيث تخضع لها جميع قوانين الفيزياء الأساسية التي لا تتغير عندما نُخضعها لهذه التحويلات. لكن في بداية الستينيات من القرن التاسع عشر، نشر جيمس كلارك ماكسويل (James Clerk Maxwell) −أعظم فيزيائيي القرن التاسع عشر− مقالا عن النظرية الكهرومغناطيسية ، عرض خلالها قوانينه الأربعة التي تحكم هذه الظاهرة وألحقه عام 1865 بمقال آخر بعنوان "نظرية ديناميكية للحقل الكهرومغناطيسي" (A dynamical theory of the electromagnetic field) الذي وضع به نظريته بشكل متكامل، والتي تضمنت وصفا للضوء على أنه أمواج كهرومغناطيسية. حظيت نظرية ماكسويل بنجاح هائل في وصفها لجميع الظواهر الكهرومغناطيسية وسريعا ما اتخذت موقعا مركزيا في صرح قوانين الفيزياء الأساسية للطبيعة.


لكن إضافة لذلك، حملت معادلات ماكسويل في طياتها مفاجئة كبيرة، فهي، بعكس كل قوانين الطبيعة التي كانت معروفة في حينه، تتغير عندما نخضعها لتحويل جاليليو. وبالتحديد عندما ينظر إلى نفس المجموعة الكهرومغناطيسية مراقبان مختلفان يتحركان بالنسبة لبعضهما بسرعة ثابتة، إذ تكون عندها لسرعة الضوء، التي تتنبأ بها هذه المعادلات نفس القيمة لكل منهما، مما يشكل تحديا واضحا لتحويل جاليليو.


لحل هذه الإشكالية لجأ الفيزيائيون لمفهوم "الأثير" وهو مصطلح أخذ في تاريخه معانٍ عديدة. تعود جذوره إلى فيزياء وعلم الكون عند أرسطو طاليس التي وضعها في كتابه "في السموات" (De Caelo) والتي بها قسّم الكون إلى قسمين: الأول، هو الأرض والمنطقة التي تحيط بها (terrestrial sphere) والتي تمس مدار القمر الذي كان يعدّ كوكبا سيارا. والثاني، هو قبة السماء (celestial sphere) التي تبدأ من القمر وتحوي كل ما نراه من كواكب (من ضمنها الشمس والقمر) ونجوم أخرى. يتكون القسم الأول، أي الأرض التي هي موقع الحركة غير المتكاملة والمشوهة، من أربعة عناصر هي التراب والماء والنار والهواء. وتتحرك هذه العناصر بخطوط مستقيمة إلى أعلى وأسفل. أما القسم الثاني، أي قبة السماء فيدور كل شيء بها في دوائر متكاملة ونمط يعود على نفسه بشكل دوري ودقيق كل ليلة. السبب في هذه الحركة المتكاملة، حسب أرسطو، هو أن الأجرام السماوية مصنوعة من الأثير، العنصر الخامس في فيزياء ارسطو وهو العنصر الكامل الذي يسير دائما بحركة دائرية متكاملة ودقيقة جدا.


بعد الثورة الكوبرنيكية تهاوت فيزياء أرسطو وأصبحت عناصرها الأساسية بغير قيمة، ولكن لسبب أو آخر استمر الفيزيائيون في استعمال مفهوم الأثير بشكل يحمل معانٍ متشابهةٍ، ولكنها ليست متطابقة، لعنصر أرسطو. مثلا، استعمل نيوتن هذا المصطلح للتغطية على نواقص تجريبية ومبدئية في نظرياته المختلفة. لقد نصّت نظريته حول الضوء بأنه مكوّن من جسيمات صغيرة جدا تسير بسرعة كبيرة، مما مكّنه من تفسير ظواهر عديدة مثل انعكاس الضوء ومساره المستقيم وغيرها. لكنها عجزت عن التعامل مع انكسار الضوء، مما حدا به لافتراض وجود الاثير لتعليل تصرف جسيمات الضوء المخالفة لنظريته. مثال آخر هو نظريته حول الجاذبية التي أوجبت وجود فعل بين أجسام عن بعد (action at a distance)، من غير وسيط واضح لتوصيل هذا الفعل من مكان إلى آخر، مثل قوة التجاذب بين الشمس والأرض. وهذا ما عارض نظرته الميكانيكية للكون حتى انه قال: "[الفعل عن بعد] بالنسبة لي هو سخافة كبيرة فلا أعتقد أن ينغرّ بها أي شخص قادر على التفكير في الأمور الفلسفية"1. لتوفيق نظريته عن الجاذبية مع فلسفته الميكانيكية تخيّل نيوتن هنا أيضا أن الأثير هو الوسيط الذي ينقل هذه القوة بين الأجسام البعيدة.


في بداية القرن التاسع عشر، نشر توماس يونغ نتائج أبحاثه التي بين بها خطأ نظرية نيوتن عن الضوء، والتي كانت النظرية المقبولة في حينه، وأن الضوء هو في الحقيقة موجة. كان الاعتقاد السائد حينها بأن الأمواج تحتاج لوسط تنتقل من خلاله من مكان إلى آخر، مثل أمواج البحر التي تسير في الماء وامواج الصوت التي تنتقل في الهواء. لكن ما هو الوسط الذي يسير من خلاله الضوء؟ وكيف يصلنا ضوء النجوم البعيدة؟ هنا أيضا لجأ العلماء لمفهوم الأثير الذي يتخلل الفراغ في كل مكان في الكون لكي يفسروا نظرياتهم حول الضوء (يعود هذا أصلا للعالم الهولندي ابن القرن السابع عشر كريستيان هاوخنس Christiaan Huygens). وعندما اكتشف ماكسويل معادلات النظرية الكهرومغناطيسية وأتضحت مشكلة سرعة الضوء ومخالفتها لتحويلات جاليليو كان من الطبيعي أن يلجأ العلماء هنا أيضا لمفهوم الأثير مرة أخرى. لن أدخل هنا في صفات الأثير في مثل هذه النظريات، إلا أنني أذكر أنها تطلّبت وجود إطار مرجعي مطلق للفراغ يكون الأثير ساكنا بالنسبة له ويتحرك به الضوء بسرعة ثابتة.


لكن إذا كان هناك إطار مرجعي مطلق نستطيع مبدئيا أن نقيس سرعته بواسطة قياس سرعة الضوء المنطلق من جسم متحرك بالنسبة للأثير. هذا بالضبط ما حاول قياسه العالمان الأمريكيان ألبرت ميكلسون وإدوارد مورلي في التجربة المشهورة المعروفة باسمهما. وهي تجربة بسيطة، يصفها الرسم المرفق، تحوي مصدر ضوء يطلق أشعته على نصف مرآة (كالمرآة التي تستعمل في غرف التحقيق) تشكل زاوية 45 درجة مع اتجاه الضوء بحيث تعكس نصف الضوء بزاوية قائمة نسبة لاتجاهه الأصلي (السهم الأزرق رقم 1 في الرسم المرفق) وتسمح لنصفه الآخر بالمرور (السهم الأحمر رقم 1 في الرسم المرفق). ينعكس الشعاعان على مرآتين عاديتين تبعدان بعدا مطابق تماما عن نصف المرآة (الصفراء). بعد الا نعكاس عن المرآة ينعكس جزء من الشعاع المبين بالسهم الأحمر (رقم 2 في الرسم) على نصف المرآة ويكمل طريقه إلى جهاز القياس، بحيث ينضم إلى الشعاع المبين باللون الأزرق (رقم 2 في الرسم) والذي يمر جزء منه من خلال نصف المرآة (الصفراء) ويبقى في خط مستقيم. إذا كان الضوء له نفس طول الموجة بالضبط وكان هناك اتساق (coherence) تام بين كل الأمواج التي تخرج من المصدر، يستطيع عندها جهاز القياس بأن يحدد إذا ما كان أحد هذين الشعاعين (المبيّنين بالأسهم الحمراء والزرقاء في الرسم) قد وصل إليه أسرع من الآخر.


 


تخيل الآن أن مجموعة التجربة في حالة سكون بالنسبة للأثير (القسم اليميني من الرسمة) عندها يكون طول المسافة التي يعبرها الشعاع الأزرق حتى يصل إلى جهاز القياس هي نفسها، لهذا لا يسجل جهاز القياس أي فرق بين سرعة وصول الشعاعين. بالمقارنة إذا ما كان الجهاز يسير بسرعة معينة (V)، مثلا، نتيجة لحركة الأرض بالنسبة للأثير عندها نتوقع حسب تحويل جاليليو أن يسير الشعاع الأزرق مسافة أكبر من الشعاع الأحمر لأنه مساره يشكل زاوية صغيرة لم تكن موجودة في الحالة الساكنة (كما يظهر في القسم اليساري من الرسمة). لهذا، وفي هذه الحالة، نتوقع أن يصل الشعاع الأزرق بعد الشعاع الأحمر لأنه يقطع مسافة أكبر. لكن المفاجأة الكبرى كانت أن الشعاعين يصلان إلى جهاز القياس معا دائما، بغض النظر عن سرعة مجموعة القياس واتجاهها.


أحدثت هذه التجربة مفاجئة كبيرة في مجتمع الفيزيائيين لأن أسهل تفسير لنتائجها هو أن للضوء نفس السرعة بالنسبة للمجموعة الساكنة والمجموعة المتحركة وأنه ليس هناك حاجة أبدا لفرضية الأثير. ضرب هذا بعرض الحائط ثوابت أساسية لنظريات الفيزياء السائدة في حينه: صحة تحويلات جاليليو ووجود الأثير في كل مكان. كان اعتقاد الفيزيائيين في حينه بوجود الأثير اعتقادا راسخا بالرغم عدم وجود أي سبب أساسي لوجوده لأنه مكنّهم من فهم عدد من الظواهر الأساسية في الفيزياء، كمعادلات ماكسويل للظاهرة الكهرومغناطيسية وطبيعة الضوء وانتشاره وغيرها، من دون الحاجة إلى تقويض مبنى قوانين الفيزياء الذي اعتقدوه راسخا. لهذا كانت هناك محاولات كثيرة للتوفيق بين نتائج التجربة ومفهوم الأثير تضمنت معظمها إحداث تغييرات طفيفة على صفات الأثير لتعيد انسجامها مع القياسات الجديدة. لعل أشهر هذه المحاولات كانت محاولة العالم الهولندي هندريك لورنتز (Hendrik Lorentz) التي اقترح بها تحويلات لورنتز الشهيرة التي استعملها أينشتاين لاحقا في النظرية النسبية الخاصة لاستبدال تحويلات جاليليو. لكن هذه الأزمة مهدت الطريق أمام الفيزيائيين لحذف مفهوم الأثير من قاموسهم العلمي بالضبط كما حصل سابقا لفيزيائيي النظرية الحرارية الذين ابتكروا السائل الحراري (caloric fluid) لتفسير انتقال الحرارة في الأجسام ليرفضوه لاحقا لصالح نظرية الديناميكا الحرارية (thermodynamics) وكما فعل الكيميائيون الذين ابتكروا عنصر النار أو الفلوجستون (phlogiston) من أجل تفسير اشتعال المواد والذي أيضا رفضوه لاحقا عندما اكتشفوا دور الأكسجين في عملية الاحتراق الكيميائية.


مبادئ النظرية النسبية الخاصة:


تتعامل النظرية النسبية الخاصة مع مجموعات تسير بسرعة واتجاه ثابتين بالنسبة لبعضها البعض (أطر مرجعية قصورية). لهذا كان من الواضح منذ البداية بأنها نظرية ناقصة، فهي لا تأخذ بالحسبان فعل القوى المختلفة وكيف تتحرك الأجسام تحت تأثيرها، بالذات قوة الجاذبية. لكن على الرغم من محدوديتها فقد تحدت مفاهيم ومسلمات عميقة جدا كان يعتقد الجميع بصحتها. وهي نظرية بسيطة من ناحية رياضية تُعَلَّم أحيانا لطلاب المدارس الثانوية لسهولة مادتها تقنيا. بالرغم من بساطتها الظاهرة فهي نظرية عميقة جدا تتطلب إعادة النظر في كيفية فهم واقعنا. ابتدأ أينشتاين كعادته في نظرياته بنص مبدأين بسيطين ظاهريّا، أسّس عليهما نظريته الجديدة:
1. المبدأ الأول هو مبدأ النسبية الذي رأيناه سابقا وهو ينص على أن قوانين الفيزياء تبقى كما هي بالنسبة لمراقب يسير بسرعة واتجاه ثابتين (إطار مرجعي قصوري). وهو كما ذكرنا مبدأ يعود في الأصل إلى جاليليو.
2. أما المبدأ الثاني فينص أن سرعة الضوء في الفراغ ثابتة ولها نفس القيمة بالنسبة لأي مراقب يسير بسرعة واتجاه ثابتين مهما كانت سرعته. وهذا مبدأ جديد يناقض بوضوح تحويلات جاليليو لأن سرعة الضوء هي 299،792،458 متر لكل ثانية (تقريبا 300،000 كيلومتر في الثانية) مهما كانت سرعة المراقب الذي يقيسها. وهذا العنصر الجديد في نظرية أينشتاين هو عمليا "قانون طبيعة" جديد.


يفرض المبدأ الأول ضمنيا، بالإضافة لما يقوله حول سرعة المراقب، بأن قوانين الطبيعة هي نفسها، بغض النظر عن موقع المجموعة الفيزيائية وفي أي زمن وجدت. أي أن مراقب في الشرق الأوسط يرصد نفس قوانين الطبيعة التي يراها مراقب في أستراليا أو حول نجم بيت-الجوز أو في المجرة اندروميدا أو حتى في أقصى أقاصي الكون. وهي نفس القوانين أيضا لمراقب يعيش بعد مليون عام من اليوم أو منذ بداية الكون. وهو ما قد يظهر للقارئ على أنه طبيعي ومفروغ منه، لكن في الحقيقة لم تكن هذه الفرضية مقبولة خلال معظم تاريخ البشر. على سبيل المثال، كانت فيزياء أرسطو طاليس التي تبعها البشر لحوالي ألفي عام تنصّ على أن قوانين الطبيعة التي تحكم الأجرام السماوية تختلف عن تلك التي تحكم الأجسام على الأرض. إن فكرة عدم تغيّر قوانين الطبيعة بالنسبة لمكان وسرعة المراقب تشكل أحد أهم وأعمق التبصرات العلمية للطبيعة التي أدركها الإنسان.


أما المبدأ الثاني فيبدو بسيطا لأول وهلة ولا يحمل في طياته اسقاطات غير عادية لكنه في الحقيقة مصدر أغلب النتائج الغريبة والعميقة التي تتمخض عن النظرية النسبية الخاصة. وهو الذي أدّى لإعادة النظر في مفاهيمنا الأساسية عن المكان والزمان والعلاقة بينهما. لكن ما الخاص في الضوء وسرعته؟ الحقيقة أن الضوء هو ليس الشيء الوحيد الذي يسير بهذه السرعة فهناك أيضا أمواج الثقالة، التي تنبأ بها اينشتاين في النظرية النسبية العامة والتي اكتشفت في الطبيعة لأول مرة عام 2015 بواسطة مرصد لايجو. بالرغم عن ذلك، يبدو أن للأجسام التي تسير بسرعة الضوء دورا خاصا في الطبيعة!


نتائج النظرية النسبية الخاصة الأساسية:


لضيق المجال في هذا المقال لن أتحدث بإسهاب عن نتائج النظرية النسبية الخاصة، بل سأكتفي فيما يلي بعرض بعض أهم النتائج المنبثقة عنها. سأبدأ بالظاهرة التي تُعرف باسم تمدد الزمن (time dilation) التي يسير بحسبها الزمن بوتيرة أبطأ في مجموعة ساكنة بالنسبة لمراقب يتحرك بسرعة ثابتة. وهي نتيجة مذهلة تتناقض تماما مع تجربتنا اليومية. السبب في هذا أنه في سرعة عادية يكون التغيير في وتيرة مرور الزمن صغير جدا، ويصبح ملحوظا بشكل واضح فقط عندما تقترب سرعة المجموعة من سرعة الضوء. لتسهيل فهم ذلك أعطي مثالا بسيطا كملحق رقم 2 للمقال، يستطيع القاريء، غير المعني بتفاصيل تقنية، تجاهله. إذن ظاهرة تمدد الزمن هي النتيجة الأولى لقانون ثبات سرعة الضوء في الفراغ (أنظر الملحق 2).


تبين المعادلات بأنه كلما كانت سرعة المجموعة الفيزيائية أكبر بالنسبة لنا كلما ظهرت لنا وتيرة مرور الزمن الذي تعيشه هذه المجموعة أبطأ. فإذا أصبحت سرعة هذه المجموعة مساوية لسرعة الضوء (وهو، كما سنرى لاحقا، أمر مستحيل إلا لجسم ذي كتلة صفر) تظهر لنا وكأن الزمن عليها قد توقف عن الجريان! بالطبع بالنسبة لمراقب يسير مع هذه المجموعة، وتيرة الزمن تبقى سائرة بشكل عادي، هذا هو جوهر النسبية.


لكن هل يمكن إثبات ذلك تجريبيا؟ عدد الدلائل التجريبية لهذه الظاهرة كبير جدا، فمثلاً، زامَنَ (synchronise) العلماء ساعتين ذريتين بحيث تشيران لنفس الوقت تماما ــ الساعة الذرية هي أدق ساعة معروفة ــ وقاموا بإرسال إحداها إلى محطة الفضاء الدولية ثم قارنوا قراءة تلك الساعة عندما عادت إلى الأرض مع قراءة الساعة التي بقيت هنا فوجدوا فرقا ملحوظا بينهما، بتوافق تام مع تنبؤ النظرية النسبية الخاصة. نحن في الحقيقة نستعمل هذه الظاهرة يوميا عندما نستعمل نظام التموضع العالمي (GPS) عبر تلفوناتنا الذكية لأن سرعة الأقمار الإصطناعية وبعدها عنا تحتم الأخذ بالحسبان نتائج النظرية النسبية الخاصة.


ظاهرة تمدد الزمن هي وراء المفارقة المعروفة باسم مفارقة التوأم (The Twin Paradox). وهي تتحدث عن أخوان توأمان ينطلق أحدهما بمركبة فضائية سريعة جدا ليعود بعد عام ليجد بأن أخاه قد تقدم في العمر أكثر من سنة بكثير، فالوقت بالنسبة لكليهما قد جرى بمعدل مغاير عن الآخر. والمفارقة هنا هي أن الأخ الذي ركب المركبة الفضائية يرى أخاه الذي بقي على الأرض يسير مبتعدا عنه بسرعة كبيرة في الاتجاه المعاكس، لأنه ساكن بالنسبة لنفسه حتى وإن كان راكبًا مركبة فضائية. إذا كان هذا صحيحا فكيف لا يرى بأنه هو الذي هرم بينما كبر أخاه الذي بقي على الأرض سنة واحدة؟ الحل لهذه المعضلة هو أن الأخ الذي ركب المركبة الفضائية لم يسر بسرعة ثابتة ذات اتجاه محدد طول الوقت، فلقد اضطر أن يعكس اتجاه سرعتة ليعود إلى الأرض وهو ما يكسر التناظر بينه وبين أخيه.


النتيجة الثانية التي أود ذكرها هي ما يعرف باسم تقلص الطول (Length contraction)، وهي تقضي بأن طول الجسم المتحرك بسرعة ثابتة يظهر أقصر(باتجاه حركته) بالنسبة لمراقب ثابت. وهي أيضا نتيجة مفاجئة جدا! الدلائل التجريبية المباشرة على تقلص الأطوال في الحقيقة صعبة المنال. السبب الأساسي في هذا هو أننا لكي نفحصها نحتاج بأن نسارع جسما كبيرا نسبيا حتى يصل إلى سرعة قريبة من سرعة الضوء، وهو أمر روتيني بالنسبة لأجسام صغيرة جدا (الكترونات وبروتونات) لكننا حتى الآن لا نستطيع تقنيا تحقيق ذلك لأجسام كبيرة. لهذا فأغلب الأدلة التجريبية على ظاهرة تقلص الطول هي دلائل غير مباشرة على الرغم أنها كثيرة جدا.


تغيير الزمن والطول يؤديان لتغيير آخر جوهري تفرضه علينا النظرية النسبية العامة يتعلق بمفهوم التزامن (simultaneity). والتزامن هو الحالة التي يحدث بها حادثان منفصلان في نفس الوقت تماما. في الفيزياء الكلاسيكية التزامن هو مفهوم مطلق، لكن في نظرية أينشتاين النسبية قد يكون حدثان متزامنان (يحدثان في نفس الوقت تماما) بالنسبة لمراقب ساكن ولكن نتيجة لتغيير الزمن في هذه النظرية يظهر نفس الحدثين بأنهما غير متزامنين بالنسبة لمراقب متحرك بسرعة ثابتة، والعكس بالعكس. بل أكثر من ذلك فقد يسبق حدث معين حدث آخر نسبة لمراقب معين ولكن بالنسبة لمراقب آخر قد يبدو ترتيب حدوثهما معاكس (الحدث الثاني يحدث قبل الأول)!


هنا من الطبيعي أن نطرح السؤال التالي: هل يمكن لنتيجة أن تظهر لمراقب معين قبل السبب الذي أدى إليها؟ في الحقيقة أن موضوع السببية هو موضوع أساسي في الفيزياء والفلسفة. ونستطيع القول بأن كسر التسلسل السببي للأحداث يؤدي إلى مفارقات وتناقضات لا تستطيع أي نظرية فيزيائية العيش معها. لتوضيح هذا نأخذ المثال التالي. لنفرض بأن كأسا من الزجاج سقط من ارتفاع كبير وتحطم عندما اصطدم بالأرض، هل يمكن أن يظهر لمراقب ما بأن الكأس تحطم قبل أن يسقط؟ الإجابة هي كلا، لأن النظرية النسبية الخاصة تحافظ على العلاقة السببية بين الأحداث، أي أن السبب لحدث معين يظهر دائما، وبالنسبة لأي مراقب كان، قبل النتيجة. أي أن النظرية النسبية الخاصة بالرغم من اختلاط الزمن والمكان بها، تحافظ على السببية (causality) أي أنها تحافظ على أسبقية السبب على النتيجة، وهو أمر نستطيع إثباته رياضيا. أما اذا لم تكن هناك علاقة سببية بين الحدثين فترتيب حدوثهما قد يتغير من مراقب إلى آخر.


الزمكان (Spacetime):


لعل أهم ما أوضحَتْهُ لنا النظرية النسبية الخاصة هو الإرتباط العضوي والعميق بين الزمان والمكان. فهما لا يحملان كينونة منفصلة كما كنا نعتقد سابقا، بل هما كالخيوط المتشابكة التي ينسج بها الكون هندسته ولا نستطيع الحديث عن الواحد من دون الآخر. في النظرية النسبية الخاصة لا تنطبق تحويلات جاليليو عند الانتقال من إطار مرجعي قصوري معين إلى الآخر، بل تبدلها تحويلات أخرى تسمى تحويلات لورنتز. وبحسب هذه التحويلات، تتغير احداثية الزمن بشكل يرتبط بالمكان والعكس بالعكس. أي أن الزمن في هذه التحويلات ليس مطلقا وانما يتغير من إطار مرجعي إلى آخر ويشبه في تصرفاته احداثيات الفراغ. أي أن الزمن في النظرية النسبية الخاصة فقد موقعه الخاص والمطلق وتحول الى مجرد احداثية يراها مراقبون مختلفون تسير بوتيرة مختلفة.


في عام 1907 قام هيرمان مينكوفسكي (Herman Minkowski)، الذي كان استاذ أينشتاين، بادخال تفسيرا هندسيا لنظرية النسبية الذي يكون بحسبه "البعد" (interval) بين نقطتين مزيجا بين البعدين الفراغي والزمني بينهما، وهذا النوع من "البعد" (أي الذي يحوي الزمن أيضا) لا يتغير من مراقب إلى آخر. لم ير أينشتاين في البداية المفهوم العميق لهذا التفسير الهندسي الذي أدخله مينكوفسكي للنظرية النسبية الخاصة، ولكنه كان في الحقيقة العامل الحاسم في تطوير نظرية النسبية العامة التي جاء بها بعد عشر أعوام من اكتشافه للنظرية النسبية الخاصة. وكما قال مينكوفسكي في محاضرة شهيرة عن النظرية النسبية الخاصة والتي ألقاها عام 1908 أمام مؤتمر فلاسفة الطبيعة الذي عقد في مدينة كولون الألمانية: "من الآن فصاعدا، الفضاء بحد نفسه، والزمان بحد نفسه، هما مجرّد ظلالٍ؛ فقط دمجهما معا من الممكن أن يحافظ على استقلاليّة ومعنًى لوُجُودهما." نتيجة لهذا الترابط العضوي بين إحداثيات الزمان والمكان ولد مفهوم الزمكان (spacetime)!


أدى هذا المفهوم الهندسي الجديد، الذي أصبح يعرف بهندسة مينكوفسكي، الى تغيير شامل في فهمنا للفيزياء ليس فقط بما يتعلق بربط الزمان بالمكان. فقد أصبح الفيزيائيون يرون أربعة متغيرات في كل شيء (على غرار الأبعاد الثلاثة والزمن) فمثلا الحقل المغناطيسي والكهرباء أصبحا مرتبطين بواسطة مبنى رياضي مشابه، كذلك الطاقة وكمية الحركة، إلخ. أي أن هذا الفهم الهندسي الجديد قد سبب إعادة ترتيب أوراق أساسية في الكثير من مجالات الفيزياء ليزوّدنا بوضوح أكبر وفهم أعمق لها. هذا التحول الواسع النطاق الذي يسببه مفهوم معين، نادرا ما يحدث في الفيزياء وهو عادة مؤشر لاكتشاف حقيقة عامة وعميقة عن الطبيعة. وهذا التحول يشبه تجربة شخص قصير النظر يرى فقط من حوله لكنه عندما يضع نظارات طبية للمرة الأولى يرى بوضوح ما كان يراه ضبابيا من قبل ويفهم الترابط العام بين ما يشاهده.


لكن ماذا يحدث لقانون جاليليو جرّاء إضافة السرعة الذي ذكرناه سابقا (مثال السيارات) على ضوء النظرية النسبية الخاصة؟ في سرعات صغيرة نسبة لسرعة الضوء لا نرى أي تغيير يذكر على هذا القانون. أما في سرعات قريبة من سرعة الضوء فينص قانون إضافة السُرَعات في النظرية النسبية الخاصة بأن السرعة الناتجة هي ليست جمع بسيط، بل هي معادلة تقضي بأن السرعة الناتجة لا يمكن أن تتعدى سرعة الضوء. في الحقيقة لا يمكن أن نسارع أي جسم من سرعة بسيطة حتى يصل إلى سرعة الضوء. هذه النتيجة ليست مفاجئة لأنها تتماشى مع مبدأ ثبات سرعة الضوء في الفراغ بغض النظر عن سرعة المجموعة التي نقيس منها معدل انتشار الضوء.


على أساس هذا الفهم من الممكن وصف الزمكان بالنسبة لأي حدث يجري هنا والآن (المبين بالنقطة الصفراء في الرسم المرفق) بواسطة ما يعرف بـ "مخروط الضوء". يصف هذا الرسم السطح الذي يسير عليه شعاع الضوء الذي يصدر من النقطة الصفراء بأنها مخروط، رأسها في نقطة الهنا والآن، لأن الضوء يسير بسرعة ثابتة. كذلك الأمر بالنسبة للمخروط الضوئي المنصرم، فهو السطح الهندسي الذي تمر عليه أشعة الضوء الآتي من الماضي ليصل إلينا الآن (إلى نقطة الهنا والآن). إذن مخروط الضوء المستقبلي هو مدى أفق الضوء الذي نراه في أي زمن محدد، ومخروط الماضي يحدد النقاط في الفراغ التي نقع نحن على أفقها الضوئي. الأجسام التي تعيش داخل المخروط الضوئي المستقبلي هي أجسام نستطيع مبدئيا التأثير عليها، والتي تعيش داخل المخروط الضوئي المنصرم تستطيع هي أن تؤثر علينا؛ أي أننا من الممكن أن تكون لنا معها علاقة سببية. أما خارج المخروطين فيسكن كل شيء آخر، أي خارج مجال امكانية التأثير السببي، لهذا نستطيع مبدئيا أن نؤثر عليه أو يؤثر علينا.



لكن ماذا يحدث إذا وجدنا جسيما يسير أسرع من الضوء؟ هل هذا مسموح بحسب النظرية النسبية الخاصة؟ كما ذكرنا لا يمكن أن نسارع جسما بحسب هذه النظرية ليصل إلى سرعة الضوء، فما بالك إن أردنا أن يتخطّاها. على الرغم عن هذا فليس هناك مانع مبدئي بوجود جسم نشأ من البداية بسرعة تفوق سرعة الضوء. لتوضيح هذا لنفكر في جسيم الضوء، فهو يولد وسرعته هي سرعة الضوء ولا نستطيع أن نبطئ أو أن نزيد من سرعته في الفراغ، كذلك الأمر بالنسبة لجسيم الذي قد يولد مع سرعة أكبر من سرعة الضوء. تسمى مثل الجسيمات التي تولد بسرعة تزيد عن سرعة الضوء تاكيونات (Tachyons). إن وُجدت مثل هذه الأجسام فهي ستكون أجساما غريبة جدا؛ فهي أولا تعيش خارج المخروط الضوئي الذي ذكرناه أعلاه. لكن الأهم من ذلك هو أن هذه الجسيمات تخرق العلاقة السببية بين المسبب والنتيجة بحيث قد يأتي الثاني قبل الأول وهذا أمر من الصعب قبوله. يحدد سهم الزمن تسلسلا زمنيا واضحا للأحداث، فالماضي يسبق الحاضر والسبب يسبق النتيجة، لكن وجود مثل هذه الأجسام يسبب شرخا في تسلسل سهم الزمن وحتى أحيانا يعكسه، بحيث تأتي النتيجة قبل السبب والحاضر قبل الماضي. هذا أيضا يطعن في حرية الإرادة التي هي شبه مقدسة لنا كبشر. لهذا يعتقد أغلب الفيزيائيين، وأنا من ضمنهم، بأنه لا وجود للتاكيونات في الواقع. على الرغم من هذا، هناك بعض من الفيزيائيين الذين يحاولون إيجاد مثل هذا الجسيم!


الطاقة والكتلة:


دعونا نتخيل الآن أننا بدأنا في لحظة معينة بتشغيل قوة ثابتة على جسم ساكن. حسب قوانين نيوتن، التي نستطيع استعمالها في سرعات صغيرة بالنسبة لسرعة الضوء، تبدأ سرعة هذا الجسم بالازدياد طرديا مع الزمن. كلما استمرت هذه القوة بالعمل على الجسم لزمن أطول كلما ازدادت سرعته. لكن عندما تقترب سرعة هذا الجسم من سرعة الضوء، لا يمكن أن تستمر سرعته بالازدياد بشكل طردي للزمن لأنها ستصل او حتى تفوق سرعة الضوء، وهذا ما اتفقنا أنه من غير الممكن. لهذا كلما اقتربنا من سرعة الضوء أصبح معدل ازدياد سرعة الجسم أقل وأقل حتى يصبح مهملا جدا. هذا بالفعل ما يحدث في معجلات الجسيمات التي يستخدمها الفيزيائيون في التجارب التي يقومون بها لفحص مبنى المادة بأصغر أشكالها، مثل التجارب التي تقوم بها المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية المعروفة باسم: سيرن (CERN).


لكن أين تذهب الطاقة التي تنتج عن تفعيل هذه القوة على الجسم إذا لم تزد في سرعته؟ الإجابة على هذا أتت في مقال أينشتاين الثاني عن النظرية النسبية الخاصة في عام 1905. في هذا المقال نقض أينشتاين أحد أهم قوانين الفيزياء الكلاسيكية وهو قانون نيوتن الثاني. في الفيزياء الكلاسيكية كتلة الجسم هي مقدار ثابت يحدد مدى مقاومة الجسم للتسارع عندما تعمل علية قوة ما. أي كل ما كانت الكتلة أكبر كلما كان من الأصعب تغيير سرعتها. لكن بحسب النظرية النسبية الخاصة تزداد مقاومة الجسم أكثر للتسارع كلما اقتربت سرعته من سرعة الضوء، لكن إذا ازدادت مقاومة الجسم للتسارع هذا يعني أن كتلته عمليا تزداد. ليس هذا فقط بل هي تزداد إلى ما نهاية إذا ما وصلت سرعة الجسم إلى سرعة الضوء! أي أن معظم الطاقة التي تنتجها القوة عندما تعمل على الجسم لا تزيد من سرعته، إذا ما كانت هذه السرعة قريبة من سرعة الضوء، بل تزيد من كتلته. أي أن الكتلة هي شكل من أشكال الطاقة وهذه أحد أهم نتائج النظرية النسبية الخاصة وأعظمها تأثيرا.


وضع أينشتاين هذه النتيجة في معادلة بسيطة أصبحت أشهر معادلة في العلوم قاطبة، وهي معادلة ،التي تقول بأن طاقة الجسم تساوي حاصل ضرب كتلته بمربع سرعة الضوء. تتعلق الكتلة بالسرعة، كما ذكرنا، بالشكل التالي بحيث أن هي كتلة الجسم عندما يكون ساكنا و عندما يكون ساكنا ولا نهائية عندما تصل سرعته إلى سرعة الضوء (لأن المقام يصبح عندها صفرا). أي أننا نحتاج لطاقة لا نهائية لجعل جسم يسير بسرعة الضوء!


الطاقة الكامنة في الكتلة هي طاقة كبيرة جدا يصعب تخيلها، وهذا يعود لأنها تحوي مربع سرعة الضوء في معادلتها الرياضية، وهو رقم كبير جدا نسبة للسرعات التي نجربها في حياتنا اليومية. لنقارن الطاقة الحركية التي تحملها سيارة وزنها طن وتسير بسرعة 100 كم في الساعة مع طاقة كتلتها. في هذه الحالة الطاقة الحركية تكون حوالي 500000 جول (وِحدة قياس طاقة) بينما تكون طاقة كتلتها هي 90000000000000000000 جول (19 صفر بجانب 9). أعطي أيضا مثالا آخرَ، الطاقة الموجودة في غرام واحد من المادة يعادل الطاقة التي تتحرر عند انفجار حوالي 21500 طن من مادة ال تي-أن-تي.


من الصعب تحويل الطاقة الكامنة في الكتلة وتحويلها لأنواع طاقة أخرى في ظروف عادية، لكن هذا بالضبط ما يحدث في التفاعلات النووية. مثلا عندما تندمج أربعة أنوية ذرة الهيدروجين لتكوّن نواة عنصر الهيليوم في لبّ الشمس تَكُون كتلة الهيليوم أقل قليلا من مجموع كتل أنوية الهيدروجين التي كونتها، وهذا الفرق هو ما تحوله الشمس إلى الطاقة الحرارية التي تبعث الحياة في كوكبنا الصغير. فهي تحول كل ثانية 564 مليون طنّا من الهيدروجين الى 559.7 مليون طنا من الهيليوم، ال 4.7 مليون طنّا التي تشكل الفرق بينهما هو ما تطلقه الشمس كطاقة في كل ثانية.


لكن مهلا ماذا عن الضوء نفسه؟ لماذا لا نحتاج طاقة لا نهائية لجعل الفوتونات تسير بسرعة الضوء؟ السبب لذلك بسيط، هذه الأجسام تحمل كتلة سكون مقدارها صفر! وهو يعني أنه بالنسبة للضوء البسط في معادلة الكتلة التي ذكرناها أعلاه هو أيضا صفر. أي أن الضوء لا يمكن أن يسير في الفراغ بسرعة أقل من سرعته المعهودة (لاحظ بأننا نستطيع إبطاء الضوء في أوساط معينة ولكن ليس في الفراغ!) فهو "يولد" بهذه السرعة. هذا ما يجعل الضوء ظاهرة خاصة لأنه لا يمكن فهمها بواسطة ميكانيكا نيوتن (التي تنطبق على الأجسام التي تسير بسرعة منخفضة بالنسبة لسرعة الضوء) بل هي ظاهرة نسبية خالصة. إذن النظرية الكهرومغناطيسية التي تفسر الضوء والتي ابتدأنا بها المقال، هي كذلك نظرية تحكمها النسبية الخاصة. أي أن مجال عمل النظرية النسبية الخاصة يحيط بنا في حياتنا كل الوقت فهي المسؤولة عن الكهرباء والضوء وغيرها من الظواهر التي نتفاعل معها في حياتنا دائما.


الجاذبية والزمن:




أدرك أينشتاين مباشرة بعد أن أنهى مقالات النظرية النسبية الخاصة بأن نظريته غير كاملة، فهي تتحدث فقط عن مجموعات تسير بسرع ثابتة من غير تسارع، ولا تتعامل أبدا مع قوة الجاذبية. لتصحيح ذلك عمل في العشر سنين التالية جاهدا على تطوير النظرية النسبية العامة التي ادخلت الجاذبية والمجموعات المتسارعة في ضمن نظرية واحدة شمولية ومتكاملة. وأتت هذه النظرية التي أتناولها بتفصيل أكبر في مكان آخر، بتغيير أعمق لمفاهيمنا عن الطبيعة. في هذه النظرية بيّن أينشتاين بأنه لا فرق بين المقاومة التي يبديها جسم للتسارع التي يعبر عنها حاصل ضرب الكتلة في التسارع وبين قوة الجاذبية (هذا ما يعرف بمبدأ التكافؤ)، وبأنه يمكن التعبير عن هذا التكافؤ بشكل هندسي. حسب هذه النظرية فإن المادة وكيفية توزّعها في الفراغ تحدد هندسة الزمكان، وهندسة الزمكان تقرر حركة الأجسام التي بداخلها. كان أحد أهم اسقاطات النظرية النسبية العامة هو أن الهندسة التي تحكم الكون ليست مستوية، بل ذات تضاريس وتعرجات وانحناءات وحتى ثقوب (الثقب الأسود مثلا) وتصدعات في نسيج الزمكان. وهذا يناقض تماما الميكانيكا الكلاسيكية التي تخضع لقوانين هندسة إقليدس المستوية للفراغ، كما ويناقض النظرية النسبية الخاصة التي تخضع لهندسة مينكوفسكي ذات الأبعاد الأربعة، والتي هي أيضا مستوية.


أدرك أينشتاين مبكرا نسبيا بأن معدل جريان الزمن يتأثر بالجاذبية، فمثلا الساعة الموجودة على سطح الأرض تمر بمعدل أبطأ من الساعة الموجودة في الفضاء الخارجي لأن قوة الجاذبية على سطح الأرض أكبر منها في الفراغ. وهذا أمر نستطيع أن نقيسه وهو يؤثر بشكل ملحوظ على الساعات في نظام التموضع العالمي (GPS). أي أن هناك تأثيرين على هذا النظام نتيجة نظرية أينشتاين؛ الأول نتيجة سرعة دوران الأقمار الصناعية لهذا النظام (النظرية النسبية الخاصة) والثاني نتيجة لضعف الجاذبية التي يشعرها القمر الاصطناعي في مداره المرتفع نسبة للجاذبية التي تؤثر علينا (النظرية النسبية العامة) وعلينا أن نأخذ الإثنين بالحسبان لضمان دقة التموضع.


أحد نتائج هذه النظرية المذهلة هو وجود ثقوب سوداء، وهي أجسام ذات كثافة عالية لدرجة انها تحني هندسة الزمكان حولها بحيث أن الضوء لا يستطيع الهروب منها. المقصود في هذا أن هناك بعدا معينا عن مركز الثقب الاسود الذي لا يستطيع أي جسم أن يهرب منه، يدعى هذا البعد نصف قطر شفارتزشيلد (Schwarzschild radius). وهذه الثقوب السوداء تشكل شرخا في الزمكان بحيث أننا نخسر العلاقة السببية مع أي جسم يسقط داخلها. بل واكثر من ذلك اذا ما راقبنا جسما ساقطا على ثقب أسود نرى بأن معدل سرعة مرور الزمن على هذا الجسم يصبح أبطأ وأبطا كلما اقترب من الثقب الأسود حتى يتوقف تماما عند الدخول عبر نصف قطر شفارتزشيلد. أي بالنسبة لنا (كما نرصده نحن) يأخذ جسم ما، مالانهاية من الزمن لكي يسقط لداخل الثقب الأسود. أما بالنسبة للجسم نفسه فعملية السقوط للثقب الأسود تحدث بسرعة كبيرة. لكي نفهم هذه الظاهرة علينا أن نتذكر بان ما نحن نراه هو ليس ما يراه الجسم الساقط لأن على الضوء الذي يصلنا منه أن يتغلب على جاذبية هذا الجسم، وهو ما لا يستطيع فعله بعد دخوله حيز التأثير المباشر للثقب الأسود، أي أن الجسم يكمل في سقوطه لكن المعلومات عن هذا السقوط لا تصلنا لأن جاذبية الثقب الأسود تمنعها من ذلك.


النظرية النسبية العامة تزودنا بامكانية أكثر غرابة يمر بها جسم يسقط لداخل ثقب أسود، وهي أنه بعد عبور نصف قطر شفارتزشيلد تتغير صفات الزمن لتصبح مثل صفات المكان والعكس بالعكس. والقصد هنا أنه يصبح بإمكان الجسم التنقل في الزمن الى الأمام وإلى الوراء كما ننتقل نحن من مكان إلى آخر. أي يوفر لنا هذا إمكانية السفر عبر الزمن، ليس فقط للأمام بل بالعودة إلى الوراء. وقد اقترح الفيزيائيون ما يسمى بثقب الدودة (worm hole) الذي به يسقط جسم الى ثقب أسود لكنه يخرج منه بواسطة ما يسمى ثقب أبيض في مكان آخر وزمان آخر. هذا هو الأساس الفيزيائي لكثير من أفلام الخيال-العلمي التي تستخدم ظاهرة ثقب الدودة للتنقل بالزمن وسبر غور الفضاء. لكن بالرغم من هذه الامكانيات النظرية يشكك الكثير من العلماء باحتمال حدوثها عمليا لعدد كبير من الأسباب من إمكانية وجود ثقب الدودة في الواقع وإذا وجد فهو غير ثابت ويختفي بسرعة، والى ما ذلك من اعتراضات فيزيائية. لكن لربما أهم سبب للكثيرين لرفض مثل هذه الامكانية هو أنها تعطينا المجال لتغيير الماضي وبالتالي تدمير العلاقة السببية بين الأشياء بحيث انها تمكّن من جعل النتيجة تأتي قبل السبب!


هل الزمكان حقيقي؟:




لنعد الآن إلى الجانب الفلسفي لموضوعنا. لقد شرحت في هذا المقال كيف أن الزمان والمكان أصبحا وحدة واحدة سميت بالزمكان وكيف خلقت النظرية النسبية الخاصة نوعا من المقابلة بينهما. لكن هل حقا أصبح الزمن مجرد إحداثية؟ إذا كان هذا صحيحا فكيف نفسر مثلا بأن تجربتنا للزمن وإدراكنا له مختلف تماما عن إدراكنا للمكان. فنحن نستطيع مبدئيا ان نقف في مكان معين أو أن ننتقل في احداثيات المكان حيث نريد، بينما لا نستطيع أن نفعل ذلك مع الزمن فهو سائر من غير توقف وبدون اعتبار لشيء أو أحد. هذا ما حاول سبينوزا أن يفسره بقوله إن الزمان هو نتاج محدودية إدراكنا وفي الحقيقة لا يوجد تسلسل زمني يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل بل هي موجودة بشكل متزامن في الطبيعة. أي أن أحداث الماضي لم تختف والمستقبل موجود الآن والسبب في أننا لا نستطيع الانتقال بينها مثلما نستطيع فعل ذلك من نقطة لأخرى في المكان هو نتيجة محدودية ادراكنا، ليس إلا. لكن إذا كان المستقبل موجودا بدون علاقة بسير الزمن فهذا يعني أنه ليس هناك دور لحرية الإرادة في حياتنا وهذا يبدو مناقضا لكل ما نفهمه عن أنفسنا وعن وجودنا، كما هو مناقض لتجربتنا اليومية في التعامل مع الطبيعة والواقع الذي يحيط بنا! في القرن العشرين طرح الفيلسوف الإنجليزي جون مكتاغرت (John McTaggart) هذا الموضوع بشكل أوضح عندما حاول برهان عدم وجود تسلسل زمني للأمور، أي أنه انكر واقعية وجود الزمن جملة وتفصيلا، وهو جزء من مدرسة فلسفية تعرف باسم اللاواقعية (antirealism)! في الواقع فإنّ تأثر أينشتاين بالفيلسوف أرنست ماخ جعله يتبنى مواقف لاواقعية مشابهه في النظرية النسبية الخاصة حتى أتى بالنظرية النسبية العامة.


لقد حسمت النظرية النسبية الخاصة المسألة التي كانت في لب النقاش بين نيوتن ولايبنتز الذي ذكرناه في بداية المقال. فهي قد جزمت بأن الزمان والمكان ليسا فقط مرتبطان ببعضهما بل أيضا نسبيّان ولا يوجد لهما وجود مطلق. لكن هذا لا يحسم التساؤل الأعمق الذي طرحه جون مكتاغرت، هل الزمكان موجود بشكل حقيقي أم أنه نتاج خيالنا ومحدودية تفكيرنا؟ هذا كما ذكرت ما كان يميل اليه أينشتاين حتى سنة 1916. لكن في الواقع لم يكن من الممكن حسم هذا السؤال بواسطة النظرية النسبية الخاصة لأنها لا توفر علاقة بين الزمكان ومحتويات الواقع. بل كان علينا أن ننتظر حتى قدوم النظرية النسبية العامة التي أوضحت بأن الزمكان هو شيء حقيقي، ولكن لا يوجد له وجود مستقل عن المادة التي يحتويها. لأن الزمكان وهندسته هو ما تحدده المادة الموجودة في الطبيعة وطاقتها، وهو موضوع قد تطرقت اليه في مقالي عن أينشتاين والنظرية النسبية العامة.


النظرية النسبية الخاصة هي إنجاز هائل في تاريخ البشر الفكري والعلمي. فقد ساعدتنا على تفسير عدد كبير من الظواهر حولنا واصبحت من أعمدة الفيزياء الحديثة الهامة. وهي النظرية الأساس التي نبني عليها فهمنا للكهرومغناطيسية، ونتائجها أدت إلى تحرير الطاقة النووية وإلى فهمنا كيف تضيء النجوم وغيرها من الظواهر الأساسية في حياتنا. لكنها أيضا فتحت أمامنا أبواب معضلات وتساؤلات أصعب. فقد تعلمنا مثلا بأننا نستطيع أن نستبق الزمن كما يحدث في مفارقة التوأم وبأننا إذا أدخلنا تاثير الجاذبية (النظرية النسبية العامة) نستطيع مبدئيا أن ننتقل بالزمن إلى الوراء (عن طريق المرور بثقب أسود). لكن يجب أن أنوه إلى أن النظرية النسبية (العامة والخاصة) لا تجيب على أسئلة أخرى هامة، أذكر منها معضلة اتجاه سهم الزمن، أي لماذا يسير الزمن في اتجاه واحد. الواقع اننا لا نعرف الإجابة لهذا السؤال على الرغم من وجود عدة نظريات عن الموضوع. فالزمن كان وما زال أحد أكثر المفاهيم الفيزيائية غموضا واثارة.


أنهي هذا المقال بالعودة الى السبب الأساسي في هذه الثورة التي ابتدأ بها أينشتاين ألا وهو مبدأ ثبات سرعة الضوء. فهذا المبدأ البسيط الساذج أتى بكل هذه التغييرات المدهشة. لكن السؤال الذي لم نتطرق إليه هو: لماذا هذه السرعة ثابتة وما الخاص في الضوء؟ هذا ما لا نعرف الإجابة عليه. قد يكون السبب هو ببساطة بأن هذه هي قوانين الطبيعة وبأن علينا أن نقبلها كما هي. وهذا بالفعل توجهي كفيزيائي. لكن في الحقيقة لا يسعني إلا الاسترسال في تفكيري عن واقع أعمق يربط بين خواص الضوء المميزة في النظرية النسبية وفي النظرية الأخرى الأساسية في الفيزياء ألا وهي نظرية الكم. ففي كلاهما يلعب الضوء لعبة مميزة. هل هذا صدفة؟ أم أن هذه النظريات هي مجرد ظلال، كالظلال التي يراها ساكنو كهف أفلاطون؛ أي انعكاسات جزئية ومشوهة لواقع أعمق بكثير ما زال يختبئ عن أعين بصيرتنا.



<\hr>


ملحق

1. الأطر المرجعية القصورية:




الإطار المرجعي (frame of reference) هو مفهوم مهم يشير إلى هيئة محاور فراغية تتمركز حول نقطة معينة تسمى نقطة الأصل (origin) وينسب إليه موقع (إحداثيات) وسرعة كل نقطة في المجموعة الفيزيائية التي نَبغي وصفها. بطبيعة الحال هناك عدد لا نهائي من هذه الأطر المرجعية.


تجارب جاليليو لحركة الأجسام أدت إلى ما يعرف اليوم باسم قانون نيوتن الأول: جسمٌ ساكنٌ يبقى ساكنا وجسمٌ متحركٌ يبقى متحركا بنفس السرعة ونفس الاتجاه ما لم تؤثر عليه قوة خارجية. إذن نستطيع أن نستعمل هذا القانون لتعريف أطر مرجعية من نوع خاص وهي أطر مرجعية يتحقق فيها قانون نيوتن الأول، وهي أطر مرجعية تسير بسرعة واتجاه ثابتين بالنسبة لبعضهما. في مثل هذه الأطر لا يسري قانون نيوتن الأول فقط على الأجسام بل تسري كل قوانين نيوتن والفيزياء عليها. لهذا النوع من الأطر مكانة خاصة في الفيزياء الكلاسيكية وهو يحمل اسم خاص: إطار مرجعي قصوري (Inertial frame of reference).


لتسهيل رؤية ما نقصده هنا لنفكر في تجربة مررنا بها جميعا وهي الصعود في مصعد من الطابق الأرضي إلى طابق مرتفع. في بداية حركة المصعد نَشْعُر بازدياد في الوزن وكأن هناك قوة إضافية تعمل عليه. المصعد في هذه المرحلة لا يسير بسرعة ثابتة، بل يتسارع (أي أنه ليس إطار مرجعي قصوري)، هذه القوة التي تسبب ازدياد الوزن هي قوة مجهولة المصدر بالنسبة لمن في المصعد (لهذا تسمى قوة خيالية)، أي أن القانون الأول لنيوتن لا يسري المفعول في المصعد المتسارع. ولكن إذا ما نظرنا من موقع ساكن خارج المصعد لما يحدث، نستطيع أن نفهم مصدر هذه "القوة الخيالية" بسهولة. المصعد يتسارع إلى أعلى في البداية لكي يصل إلى سرعة صعود ثابتة، خلال هذه المرحلة يدفع المصعد براكبه حتى يتسارع معه وهذا هو مصدر القوة الإضافية التي تعمل على الجسم وتجعله يتسارع (بحسب قانون نيوتن الثاني). بالنسبة لمن يراقب المصعد من هذا الموقع الساكن لا توجد قوة خيالية تزيد من ثقل الجسم كما هي الحال لمن يرصد ما يحدث من داخل المصعد، بل هناك قوة حقيقية تدفع بالجسم ليتسارع مع المصعد إلى أعلى. أمر مشابه يحدث عندما نجلس في سيارة تسير بسرعة على منحنى، عندها نشعر بأن هناك قوة تدفعنا عن مركز الدوران، نسميها عادة القوة الطاردة عن المركز. هذه القوة هي أيضا قوة خيالية بالنسبة لراكب السيارة لأنه ليس لها مصدر واضح. نحن في الحقيقة نشعر بهذه القوة لأن السيارة عندما تدور في منحنى تغير من اتجاه سرعتها مما يجعلها تخرق شروط قانون نيوتن الأول. ما يحدث في الحقيقة من نقطة مراقب خارجي ساكن (أي من إطار مرجعي قصوري) هو أن السيارة تدفع بنا نحو المركز لتغيّر من اتجاه حركتنا خلال دورانها على المنحنى.


الأُطر المرجعية القصورية هي أطر تسير بسرعة واتجاه ثابتين، ونتيجة لهذا لا يوجد بها قوى خيالية (ذات مصدر غير معروف مثل القوة الطاردة عن المركز) بل تصحّ بها قوانين الطبيعة من غير الحاجة إلى أية إضافة.


2. تمدد الزمن: برهان بسيط:




لنفرض أن الفيزيائية سعاد تقوم بتجربة قياس سرعة الضوء من على متن قطار يسير بسرعة ثابتة، v، بواسطة مصدر ضوء وجهاز قياس دقيق. تضع سعاد مصدر الضوء على أرضية القطار وتوجهه إلى أعلى (كما يبين الرسم المرفق)، وتضع على بعد L منه جهاز القياس لتسجل بواسطته الزمن، t، الذي يستغرق الضوء للوصول من مصدر الضوء إلى جهاز القياس، وهو الزمن الذي يستغرقه لقطع المسافة L. لنفرض أن سرعة الضوء هي c، لذلك تكون المسافة التي يقطعها الضوء بالنسبة لسعاد مساوية لمحصلة ضرب سرعته في الزمن، أي L=ct، وهو ما يبينه القسم الأسفل اليساري من الرسم المرفق. لنفكر الآن ما الذي تراه سلمى، زميلَةُ سعاد، التي تقف ساكنة على الرصيف وهي تراقب نفس التجربة . فهي ترى جهاز القياس يتحرك مع القطار تجاه اليمين، أي بالنسبة لها تكون المسافة التي يقطعها الضوء من مصدره حتى يصل إلى جهاز القياس أطول، كما يظهر في القسم الأسفل اليميني من الرسم المرفق.


لكن إذا كانت سرعة الضوء بالنسبة لسعاد وسلمى هي نفسها كيف نستطيع تفسير الفرق بينهما في قياس المسافة؟ الإجابة الوحيدة الممكنة على هذا السؤال هي أن الزمن الذي يأخذه الضوء للوصول من المصدر إلى جهاز القياس بالنسبة لسعاد يختلف عن الزمن الذي يأخذه بالنسبة لسلمى. أي أن t يختلف عن 't (نستطيع أن نبين بسهولة عن طريق المعادلة التي تظهر في القسم اليميني الأسفل من الرسم، وتعويض قيمة L من المعادلة التي تظهر في القسم اليساري الأسفل بأن ). وهذه النتيجة مذهلة فهي تعني أن الزمن يتحرك بوتيرة مختلفة بالنسبة لسعاد عمّا هو عنه بالنسبة لسلمى. العكس صحيح أيضا أي أن سلمى هي التي تتحرك بالنسبة لسعاد وما حسبناه يبين أن وتيرة مرور الزمن في مجموعة سعاد الساكنة بالنسبة لها (القطار لا يتحرك نسبة لمن بداخله) هي أسرع نسبة لما تقيسه سلمى. وبالتحديد ترى سلمى التي تتحرك بالنسبة للقطار بأن وتيرة الساعة في القطار أبطأ من وتيرة ساعتها. إذن ظاهرة تمدد الزمن هي النتيجة الأولى لقانون ثبات سرعة الضوء في الفراغ.


Slide4.jpg



[1] “[action at a distance] is to me so great an absurdity that I believe no man who has in philosophical matters a competent Faculty of thinking can ever fall into it”

شيء من عدم: الكون، نظرية الكم وطبيعة الواقع العجيبة

9/21/2017

 

الجزء الأول: الطريق إلى نظرية الكم


شهد الربع الأوّل من القرن العشرين ثورةً كبيرةً في عالم الفيزياء انبثق عنها نظريتان؛ الأولى هي النظريّة النسبيّة العامّة، التّي تحكم قوة الجاذبيّة وبالتّالي الأبعاد الكبيرة، أمّا الثانية، التّي هي موضوعنا هنا، فهي النظريّة المعروفة باسم نظرية الكمّ (Quantum Theory)، وهي النظريّة الفيزيائيّة التّي تُعنى بقوانين الفيزياء التّي تحكم الأجسام الصغيرة جدًا، مثل الذرّة ونواتها. تمخّضت نظريّة الكمّ عن واقعٍ غريبٍ جدًا، بعيدٍ كلّ البُعد عن فهمنا السليقي للطّبيعة وقوانينها، وأدّت إلى شرخٍ كبيرٍ بين علماءِ الفيزياء حول فهمهم للواقع الموضوعي ومعناه. على الرغم من هذا النقاش الكبير، تعدّ نظرية الكم أدّق نظريةٍ فيزيائيّةٍ عرفها البشر في تاريخهم، فهي تتفّق مع القياسات لبعض المقادير الفيزيائيّة (مثل عزم الإلكترون المغناطيسي) بدقة واحدٍ على مائة مليار، وهي دقّة تعادل قياس المسافة بين القدس وباريس بدقةٍ أكبر من سمك شعرةٍ واحدة!


تسمح نتائج هذه النظرية، وإن تبدو غريبة، بوجود الكون، وتُمكّن عمليّة الاشتعال التّي تضيء الشمس، وتحكم الذرّات والمركبات والدي-أن-إيه وغيرها ممّا لا يعدّ ولا يحصى من ظواهر فيزيائيّة وكيميائية وحتى بيولوجية. تكمن هذه النتائج أيضاً وراء حياتنا المعاصرة المبنية على الاتصالات والإلكترونيات الحديثة والهواتف الذكية ونظام التموضع العالمي (GPS) وغيرها من الابتكارات الحديثة التّي نكاد لا نستطيع تخيّل حياتنا بدونها. تجدر الإشارة أن التقديرات تشير أن الصّناعات المرتبطّة بفيزياء الكمّ تشكّل اليوم أكثر من ٪30 من حجم الاقتصاد الأمريكي.


لا يناقش أي أحد في عالم الفيزياء صحّة الحسابات التّي تنتج عن نظريّة الكمّ، فكما ذكرت، دقتها تثير الدهشة والإعجاب. لكن الخلاف المركزيّ هو حول معناها وتداعياتها على فهم طبيعة الواقع وموضوعيته. يُعتبر النقاش بين أينشتاين وبين العالم الدنماركي الشهير نيلس بوهر (Niels Bohr) ومؤيدو كلّ منهما من أشهر النقاشات التّي جرت حول هذا الموضوع. يقف الخلاف في صلب هذا النقاش على الطبيعة الإحصائيّة (statistical) والاحتماليّة (probabilistic) لنظريّة الكمّ وإسقاطات قوانينها على معنى الواقع، وهو الأمر الذي رفضه أينشتاين بحدّة كاتبًا جملته الشّهيرة في رسالة إلى ماكس بورن (Max Born)، أحد عمالقة نظرية الكمّ، قائلًا: "أنا على قناعةٍ تامّة بأن [الله] لا يلعب النرد". سنعود إلى هذا النقاش وغيره لاحقًا، ولكني أودّ أن أشير إلى أن كثيرًا من الفيزيائيين يتجاهلون هذا النقاش ولا يفكرون فيه، بل يستعملون نظرية الكمّ بالرغم من عدم وضوح تفسيراتها. قال الفيزيائي الأمريكي ديفيد ميرمن (David Mermin) في تعبير عن هذا التوجّه السائد "اصمت وأحسب!" (!shut up and calculate)، معبًرا من خلاله عن الثقّة الكبيرة لعلماء الفيزياء بنتائج نظرية الكمّ وحساباتها والتقدّم الهائل الذّي نتج عنها في حلّ معضلاتٍ كثيرةٍ وفتح آفاقًا هائلةً أمام العلوم، ولكن أيضاً عن تجاهلهم المقصود للمعنى العميق لهذه النظرية ونتائجها المربكة في نفس الوقت. إذًا فما هي هذه النظرية وما الغريب فيها وهل هناك حدود لتطبيقها؟


سوف أشرح في هذا المقال جذور نظريّة الكمّ، التاريخيّة والعلميّة، وأعرض نتائجها المهمّة، كما وسأسبر أعماقها وأتفحّص الواقع المربك الذي تصفه، وأذكر بعض التفسيرات الأساسية لها. هدفي الأساسيّ من هذا المقال هو تفحّص علاقة إحدى النتائج الغريبة والتّي تظهر بشكلٍ طبيعي في نظرية الكمّ، وهي ما يسمى طاقة الفراغ (vacuum energy)، بنشأة كوننا قبل حوالي الـ 14 مليار عام، والانتشار المتسارع الذي نرصده في الكون في الحقبة الحالية!

جسمٌ أم موجة؟


دفع نجاح الفيزياء الكلاسيكيّة (الميكانيكا النيوتونيّة، نظريّة الأمواج ونظريّة الكهرومغناطيسيّة) الكبير في نهاية القرن التاسع عشر بالكثيرين إلى الظّنّ بأنّنا نفهم كل شيء عن القوانين الأساسيّة للطبيعة، وما تبقى للفيزيائيين هو فقط "استكمال بعض التفاصيل" (يعزى هذا القول خطأ للورد كلفين، أحد أكبر فيزيائيي القرن التاسع عشر). كانت الثقّة بهذه الفيزياء كبيرة لدرجة أنّه كان هناك اعتقادٌ سائدٌ بأنّ الفيزياء هي موضوع "ميت" لأنّه لا يحمل في طياته أسئلة تدعو لأبحاث جدّية تكشف عن حقائق أساسيّة جديدة حول الطبيعة، فكلّ شيء مفهوم في قوانينها. لم يكن أحد في حينه يحلم بحجم عواصف التّغيير العاتيّة التي ستحصل في بداية القرن العشرين والتّي ستغيّر كل ما نعرفه عن الطبيعة وقوانينها. أتتنا هذه الّتغييرات بالنظريّة النسبيّة العامّة والخاصّة ونظريّة الكمّ التّي هي موضوعنا هنا. دعونا بدايةً نفحص ما هي جوانب الفيزياء الكلاسيكيّة المهمّة التي تتحداها نظريّة الكم وما هي التّغيرات التّي كان على العلماء التعايش معها.


هناك فرقٌ واضحٌ في الفيزياء الكلاسيكيّة بين الجسم والموجة. الجسم المادي هو عبارة عن تجمّع مادة يشغل حيّز ذو امتداد في الفراغ وله كتلةٌ معينةٌ، واعتبر أغلب علماء الفيزياء الكلاسيكيّة بأنّنا نستطيع تجزئة الأجسام الماديّة إلى جسيماتٍ صغيرةٍ نقطيّةٍ تقريبًا (corpusculism أو atomism)، وهي فكرةٌ تعود أساسًا للفيلسوف اليوناني ديمقريطس. قد يكون الجسم المادي، كالغاز مثلًا، منتشرًا في حيّزٍ معيّن، ولكننا نستطيع مبدئيًا على الأقل، أن نحدّد مكان وسرعة كل جسيم من مركباته بدقةٍ كبيرةٍ جدًا، حتى لو كان هذا الجسم متناهيًا في الصّغر.


تحكم الأجسام بحسب الفيزياء الكلاسيكيّة قوانين نيوتن وتحدّد حركتها بدقّةٍ كبيرةٍ، وهي قوانينٌ حتميّةٌ (deterministic laws) تتعامل مع الطّبيعة كآلةٍ ميكانيكيّةٍ كبيرةٍ، تعمل مثل آلية ساعة اليد وعقاربها، أو كما تتحرّك كرات البلياردو. ينظر للجسم بناءً على ذلك بحسب ميكانيكا نيوتن بأنّه كيانٌ واضحٌ وحتميّ التصرّف. دفعت هذه الحتميّة الميكانيكيّة في القرن الثامن عشر بالعالم الفرنسي الكبير لابلاس بأن يقول إنّه إذا عرف كائنٌ ما مكان وسرعة كلّ جسمٍ في الكون بدقةٍ كبيرةٍ جدًا في لحظةٍ معيّنة، استطاع هذا الكائن بأن يتنبأ وضع الكون وكلّ ما فيه في أيّ لحظةٍ من الزمن في المستقبل (والماضي). أطلق على مثل هذا الكائن اسم شيطان لابلاس (Laplace's demon)، إنه هذا الجانب من ميكانيكا نيوتن الذي أثار حفيظة عدد من الفلاسفة والمفكرين الذين تساءلوا: إذا كان كلّ شيءٍ محدّدًا بحسب قوانين الطبيعة الفيزيائيّة، فمن أين تأتي إذا الإرادة الحرّة؟ هل هذا يعني بأن الإنسان يعمل كالسّاعة التي حُدّد مصيرها سلفًا؟ (سأعود لهذا باقتضاب لاحقًا).


تعدّ الموجة في المقابل، اضطرابٌ يحمل طاقةً يتحرك في خلال وسطٍ مادي (كأمواج الصّوت) أو في الفراغ (كالأمواج الكهرومغناطيسيّة). إنّ انتقال الموجة من مكانٍ إلى آخر هو انتقالٌ لا يحمل معه مادةً بل هو مجرد انتقال الاضطراب من مكانٍ إلى آخر. خذ حركة وتر العود مثلًا، فهي حركةٌ موجيةٌ تحدث نتيجةً للاضطراب الذي تحدثهُ ريشة العازف فيه، وعندما ينتقل هذا الاضطراب من مكانٍ لآخر على طول الوتر، يبقى الوتر مكانه. للأمواج عادةٌ صفةٌ دورية، بحيث أنها تكرّر نفسها، وما يميّزها هو طول الموجة و ذبذبتها (عدد الأمواج التّي تمرّ في كلّ ثانيةٍ) اللتّان معًا تحدّدان سرعة انتشار الموجة.


إنّ تاريخ نظريّة الأمواج طويلٌ ومثيرٌ للاهتمام لا يسعني الحديث عنه هنا لضيق المجال، لكنّي أودّ الإشارة هنا إلى حقيقتين تتعلّقان بالضوء. لم يكن هناك اتفاقٌ حتّى بداية القرن التاسع عشر على ما إذا كان الضوء أمواجاً أم جسيمات، حتى أتى توماس يانغ (Thomas Young) وعرض في عام 1804 تجربة تداخل الضوء التي سأذكرها لاحقًا والتي أثبت من خلالها بأنّ الضوء موجة. كان هناك اعتقادٌ راسخٌ، حتى بداية القرن العشرين، بأنّ الأمواج بحاجةٍ إلى وسطٍ معيّن حتى تنتشر من خلاله، كأمواج الماء والصّوت، لكن إذا كان الضوء موجةٌ، فما هو الوسط الذّي ينتشر من خلاله؟ اعتقد أغلب العلماء بأنّ هناك وسطًا غير مرئي سمّوه الأثير (نسبةً لعنصر فيزياء أرسطو الخامس)، والضوء هو مجرد اضطرابٍ في هذا الوسط. في الحقيقة، نحن نعرف منذ بداية القرن العشرين أنّه ليس هناك وسطًا كهذا وأنّ الضوء يستطيع الانتشار في الفراغ، لكن هذا جزءٌ من قصّةٍ أخرى سأتحدث عنها عندما أغطي تاريخ النظرية النسبيّة الخاصّة وأفكارها.



لنعد إلى موضوعنا. تختلف صفات الأمواج إذًا عن صفات الأجسام بشكلٍ جوهري. تصف الصورة المرفقة ما يسمّى بالموجة المستوية، وهي موجةٌ يميّزها وجود جبهة مستوية وعددٌ لا نهائي من القمّم والوديان. إذًا، وبعكس الأجسام، نحن لا نستطيع أن نحدّد بدّقةٍ مكان الموجة المستويّة فهي تمتدّ على مسافاتٍ كبيرةٍ. فمثلًا، يمتدّ موقع الموجة التّي تصلنا من الشّمس من هنا حتى الشّمس ويستمر في الانتشار، وما يصل عيوننا هو جبهات موجة الضوء التي تؤثر على شبكيّة العين وتحفّز عصب النّظر. تختلف القوانين التّي تحكم حركة الأمواج عن قوانين نيوتن (وإن كان بعضها مشتقًا من الميكانيكا الكلاسيكيّة)، وتعرف باسم معادلات الأمواج.


أذكر هنا، ببعضٍ من التّفصيل، ثلاثُ مميّزاتٍ للأمواج والتي سوف نحتاجها لاحقًا:

1. الانعكاس. وهي ظاهرةٌ تحدثُ مثلًا عندما تواجه الموجة عائقًا صلبًا كما يحدث في المرآة، أو حين تقع أشعة الشّمس على الأرض وتنعكس في كلّ الاتجاهات لتنير النّهار، وغيرها ممّا لا يحصى من ظواهر. لكن الانعكاس يحدث في حالاتٍ عامّةٍ أكثر عندما تنتقل الموجة من وسطٍ إلى آخر (ليس بالضرورة عائق) كما يحدث عندما تنتقل أشعة الشّمس من الهواء إلى الماء، إذ عادةً ينتقل جزءٌ من الأشعة إلى داخل الماء و ينعكس جزءٌ آخر منها (في زوايا معيّنة تنعكس كل أشعة الشّمس). ما يميّز الانعكاس أن الزاوية التي تنعكس بها جبهة الموجة تساوي الزاوية التّي تسقط بها على السطح الصلب أو الذّي يفصل بين الوسطين.




2. الحيود (diffraction). وهي ما يحدث للموجة عندما يواجهها عائقٌ معيّنٌ ذو بعدٍ محدود. تنعطف جبهة الموجة في مثل هذه الحالة فتتقدّم بشكلٍ منحنٍ (دائري) لتصل إلى خلف العائق. يبيّن الشّق اليميني من الرسم المرفق أعلاه موجةً مستويةً تأتي من يسار الرسمة، كما يبيّن السهم الأزرق، بحيث تواجه سدًا به شق ضيق. يمرّ القليل من هذا الثقب الضيّق ويتصرّف كموجةٍ دائريةٍ مصدرها هذا الشّق. هذه هي ظاهرة الحيود. نرى هنا فرقًا أساسيًا بين الموجةِ والجسم، فالجسم لا يتصرف بهذا الشكل أبدًا! أو هذا على الأقلّ ما تعتقده الفيزياء الكلاسيكيّة. اقتطعت الشّق اليساريّ من الصّورة المرفقة أعلاه من غوغل الكرة الأرضية (Google Earth) وهي صورةٌ لكاسحة أمواجٍ في ميناء حيفا. تظهر أمواج البحر كموجةٍ مستويةٍ، جبهتها واتجاهها تظهر في يسار الصورة ( يُشار إلى إحداها باللّون الأصفر). تتغيّر هذه الموجة عندما تواجه العائق الحجري إلى جبهةٍ دائريةٍ كما يظهر في يمين الصورة والتّي يبيّن أحدها الخطّ الأحمر، كما أننا نرى جزءًا من الموجة يسير خلف الحاجز.


3. التّداخل (interference). وهي ما يحدث عندما تتقابل موجتان من نفس النوع معًا، فبعكس الأجسام التّي عادةً لا تخترق بعضها بعضًا، تستطيع الأمواج أن تتداخل مع بعضها بحيث تبني الموجة أختها حيث تتوافقان وتهدمها حيث تتعاكسان. تبيّن الصورة المرفقة ما يعرف بتجربة يانغ (نسبة لِ Thomas Young) والذّي بيّن من خلالها أنّ الضوء عبارة عن موجة. نرى في الرسم موجةً مستويةً تتقدّم من اليسار إلى اليمين تواجه في مسارها شقّان صغيران. يؤدي حيود الموجة بواسطة كلٍّ منهما إلى نشوء موجتين دائريتين مصدر كلّ منهما الشّقان الضيّقان الموجودان في الحاجز. تتداخل هاتان الموجتان حين تعبران خلال بعضهما البعض بحيث تبني وتهدم أحدها الأخرى بحسب الموقع كما تبيّن المناطق البيضاء والسوداء في الرسم، أيّ أنّ التداخل عمليًا هو جمع موجتين مصدرهما كلٌّ من الشقين في تجربة يانغ. تسمى هذه الظاهرة أيضا بمبدأ التراكب (superposition principle)، وهي صفة خاصّة بالأمواج فقط بحسب الفيزياء الكلاسيكيّة، لأنّ الأجسام لا يمكن أن تتصرّف هكذا!



الواضح بينهما جليًا حتى بداية القرن العشرين الذّي أتى بمعطياتٍ جديدةٍ قلبت كل المعايير السابقة. في الحقيقة، كانت الشّروخ قد بدأت تبدو واضحةً في مبنى الفيزياء الكلاسيكية الكبير، حتى في القرن التاسع عشر، فمثلًا، لم تتماهى المعادلات التّي تحكم الكهرومغناطيسيّة (معادلات ماكسويل) تمامًا مع قوانين الميكانيكا، ممّا أدّى لاحقًا إلى اكتشاف النظريّة النسبيّة الخاصّة لأينشتاين. كما وقفت الفيزياء الكلاسيكيّة عاجزة تمامًا عن تفسير بعض الظواهر التي رأت النور بخصوص دراسة الذرّة وأشعتها، أيّ أنّ رياح التّغيير بدت جليةً للكثيرين مع مطلع القرن العشرين، ولكن لم يتوقع أحد حجم هذا التّغيير المذهل والذّي كانت فكرة الفصل ما بين الموجة والجسم المادي أولى ضحاياه. لكن لربما كان اختراع أديسون البسيط والهام جدًا وهو المصباحُ الكهربائي أهم العوامل التي أدّت إلى بداية فيزياء الكمّ وثورتها.

بدايةُ ثورةٍ والسببُ... مصباحٌ


اخترع توماس أديسون في نهاية القرن التاسع عشر المصباح الكهربائي الذي أحدث تغييراً جذريّاً في حياة البشر. أدّى هذا الاختراع إلى سباقٍ وتنافسٍ كبيرٍ بين شركاتٍ عدّةٍ يهدف إلى إنتاج مصباحٍ كهربائي يعمّر طويلاً وبأقلّ مصروفٍ للطاقة. استعملت عدّة شركاتٍ في سبيل ذلك خدمات الفيزيائيّ النظريّ الألماني ماكس بلانك (Max Planck) للبحث في إمكانية تطوير مصباحٍ من هذا النوع. ابتدأ بلانك في دراسة صفات سلك التوهج في هذه المصابيح محاولًا فهم طبيعة طيف الضوء الذي يشّع منها. يسمى مثل هذا الطيف في الفيزياء طيف الجسم الأسود (blackbody spectrum). يجدر التنويه إلى أنّ تسمية الجسم الأسود يجب أن لا تؤخذ حرفيًا، لأنّ ما يقصد بها هو أنّ الجسم في حالة اتزان حراري بين ما يصدره من أشعةٍ وما يمتصّهُ، والأمر الذي فاجئ الفيزيائيين هو أنّ طيف الجسم الأسود يعتمد فقط على درجة حرارة ذلك الجسم، فمثلًا، يكون لون الجسم الأسود أحمراً عند حرارة 1000 درجةٍ مئويّةٍ (مثل الحديد المنصهر)، ويكون أبيضاً مائلٌ إلى الصفرة على درجة حرارة 6000 مئوية (مثل حرارة سطح الشّمس) والخ.


تنبأت النظريّة الكلاسيكيّة للضوء أن شدّة الضّوء في طيف الجسم الأسود تزداد كلما قصر طول الموجة (كما يبيّن الخطّ الأزرق في الرسم). إذا قمنا بحساب كمية الطاقة الكلية التي تصدر من جسم يتبع الخطّ الأزرق سنتوصّل إلى أنّ مثل هذا الجسم يصدر ما لانهاية من الطّاقة، وهو أمرٌ غير معقول. تُعرفُ هذه المشكلة باسم الكارثة الفوق بنفسجيّة (ultraviolet catastrophe). بالمقابل، ما يجدهُ القياس في المختبر هو أنه ابتداءً من طول موجةٍ معيّنة تبدأ كثافة الضّوء بالنزول بشكلٍ حادّ كلما قصر طول الموجة (كما يبيّن الخطّ الأحمر في الرسم). كانت هناك عدّة محاولاتٍ لتفسير قياس طيف أشعة الجسم الأسود (الدالة المبيّنة بواسطة الخط الأحمر)، وباستخدام فرضياتٍ معيّنة استطاع البعض تفسير تصرف هذه الأشعة للأمواج الطويلة، وبحسب فرضياتٍ أخرى مختلفة تماماً يمكن تفسير تصرّف الطّيف في حالة الأمواج القصيرة، لكن لم يستطع أحدٌ إعطاء دالة واحدة تناسب كل أطوال الأمواج، حتى جاء ماكس بلانك!


يعدّ إنجاز بلانك الأول إيجاده، بمساعدة زيادة معامل ثابت (يسمى ثابت بلانك، h)، دالة واحدة تلائم قياسات طيف الجسم الأسود في عام 1900. في أغلب الحالات، عندما يجد فيزيائيٌ دالةً رياضيّةً تلائم المعطيات، لا يكون لهذه الدالة معنًى عميق، لكن دالة بلانك، كما أصبحت تُعرف، لاءمت المعطيات التجريبيّة بدقةٍ غير مسبوقةٍ واستُعملت للتنبؤ بالنتائج المخبريّة بنجاحٍ هائلٍ ممّا أقنع بلانك بأنّ الدالة التي اكتشفها تحمل في طيّاتها معنًى عميقا حول طبيعة الضّوء، وهذا هو إنجازه الكبير الثاني. فرض بلانك فرضيتين جوهرتين ليفهم من أين أتت هذه الدالة، الأولى بأنه يمكن التعامل مع أشعة الجسم الأسود بواسطة نظرية الفيزياء الإحصائية التي تطبّق على الغازات، أيّ على مجموعةٍ من الجسيمات المادية، وليس على الأمواج، والثانية هي أنّه إذا أخذنا الأشعة ذات طول موجة (ذبذبة، ν) معيّنة من طيف الجسم الأسود تكون مكونةً من كمّات (quanta) من الطاقة قدر كل منها هو hν، والتي أصبحت تعرف لاحقًا بالفوتونات، أي ان الطاقة يمكن ان تكون فقط اضعاف كاملة، وليس أجزائا، للكم الاساسي hν. عندها استطاع بلانك اشتقاق دالّته بشكلٍ طبيعي من الأسّس الفيزيائيّة المعروفة. لكن مهلًا! ألم تتعامل هاتين الفرضيتين مع الضوء كمجموعة أجسام وليس مجموعة أمواج؟ هذه كانت الفكرة الثورية التي أتى بها بلانك، لربما أكثر فيزيائي محافظ من بين أترابه. كانت هذه هي الطلقة الأولى لانطلاقة ثورة فيزياء الكمّ الكبيرة، وكل ذلك بفضل مصباح!


لكن، وكما نعلم، لا يتبنى الناس الأفكار الجديدة بسرعة، بل تُستقبل عادة بالشّك وحتى الاستخفاف. العلماء ليسوا مختلفين، بل في كثير من الأحيان هم محافظون أكثر من باقي الناس وذلك لأن آراءهم وأفكارهم تكون مبنيةً على بياناتٍ تجريبيةٍ ونظرياتٍ أثبتت فعاليّتها على أرض الواقع. هذا بالضّبط ما واجهه ماكس بلانك، الذي أُصيب بإحباطٍ شديدٍ نتيجة رفض الغالبيّة السّاحقة من أقرانه قبول نظريته. بالمقابل، الذّين قبلوا نظريته هم علماءٌ من الجيل الجديد من الفيزيائيين مثل أينشتاين وبوهر وغيرهم. لهذا السبب قال بلانك جملته الشهيرة: "الحقيقة العلميّة لا تنتصر بإقناع خصومها وجعلهم يرون النور، بل لأنّ خصومها يموتون في نهاية المطاف وينمو جيلٌ جديدٌ معتادٌ عليها".


توالت عدة اكتشافات أخرى بعد هذه البداية، دلّت جميعها على أنّ الضّوء يتصرف أيضًا كجسم، وليس فقط كموجة. منها ظاهرة المواد التّي تحرّر إلكترونات حين يقع عليها ضوءٌ ذو طول موجةٍ معينةٍ، والمعروفة باسم التّأثير الكهربائي الضّوئي، والتّي فسرّها أينشتاين في مقال عام 1905 بواسطة كمّات الطاقة الضوئية، الفوتونات، بشكلٍ مشابهٍ لمفهوم بلانك. من الجدير بالذكر أنّ أينشتاين حصل على جائزة نوبل للفيزياء على هذا المقال، وليس على انجازاته العظيمة الأخرى. ومن الظواهر الأخرى التّي أيضًا احتاجت مفهوم الفوتون، هي ظاهرة تبعثر الضوء على إلكترونات حرة، والمعروفة باسم ظاهرة كومبتون وغيرها من الظواهر العديدة.


تتحدى الظواهر التّي تمّ ذكرها الطبيعة الموجية للضوء، وتدّل أنّه يتصرّف أحيانًا كجسمٍ مادي. ولكن ماذا عن الحالة العكسيّة؟ هل يمكن لأجسام مادية أن تتصرّف كأمواج؟ الإجابة هنا أيضًا كانت مفاجئة، فهناك العديد من الظواهر التي ابتدأ العلماء باكتشافها في بداية القرن العشرين والتّي تَحْدُث على أبعادٍ ذرّيةٍ صغيرةٍ جدًا، تتصرّف بها أجسامٌ مثل الإلكترونات بشكلٍ واضح كأنها أمواج، مثلًا، ظاهرة الضّوء الذي يشعّه عنصر الهيدروجين والذّي يحمل أطوال أمواجٍ محدّدةٍ جدًا، ولا يشعّ أو يُبتلع في أطوال أمواجٍ أخرى. تبيّن الصّورة المرفقة أدناه طيف ذرة الهيدروجين في مجال الضوء المرئي. يرينا طيف الابتلاع أطوال الأمواج التي يبتلعها الهيدروجين إذا ما مرّ ضوء من خلاله، بينما يبيّن طيف الإشعاع الأمواج التي يُشعّ بها الهيدروجين. إنّ أطوال أمواج الطيف محددة جدًا في الحالتين ومعطاة في الرسم. استطاع العالم الدنماركي نيلس بوهر (Niels Bohr) تفسير خطوط الطيف هذه عندما افترض بأن الإلكترون يتصرف كموجة! كما تم أيضا القيام بتجربة يانغ المذكورة أعلاه ولكن بدلًا من استعمال موجةٍ مستويةٍ أطلقوا حزمة إلكترونات على شقين ليروا بوضوح أن نمط التداخل يبدو تمامًا كما لو أن الالكترونات أمواج.


إذا، أصبح واضحًا تمامًا خلال العقدين الأولين من القرن العشرين بأنّ الفصل الكلاسيكي بين الجسم والموجة لا ينطبق على عالم الذرّة وفيزياء الأبعاد الصغيرة، كما وأصبح واضحًا أنّ هناك حاجة لنظريّة فيزيائيّة جديدة تفسر كل هذه الظواهر الغريبة من خلال إطارٍ منظمٍ وموحد.




الجزء الثاني: نظرية الكم وواقعها



نظريّة الكمّ ومبدأ اللايقين


في الربع الأوّل من القرن العشرين، أيّ خلال ال25 عامًا التّي مرّت على اكتشاف بلانك، تحولت قطرات الأدلة التي تتحدى الفيزياء الكلاسيكية إلى سيلٍ عرمرمٍ. قوّض صرح البناء العظيم الذي بناه نيوتن وأتباعه، والذي كان القلعة الشامخة في فهمنا للطبيعة.


بالرغم من النجاح الذّي حققه بلانك، أينشتاين، بوهر وغيرهم في تفسير بعض النتائج، لم يستطع أحد أن يعطي نظريةً واحدةً توحد تفسير كل النتائج بشكل منهجي ومتناسق. دخلت الفيزياء، كمجال أبحاثٍ، في أزمةٍ حقيقيةٍ لم يكن واضحًا خلالها ما إذا كان سيظهر مبنًى فيزيائي جديد يحلّ محل الفيزياء الكلاسيكية أم أننا سنبقى مع هذا الدمار، ولكن فجأة ظهرت نظريتان تحملان بشرى الانقلاب المنشود. النظرية الأولى، أتى بها شاب في ربيعه الرابع والعشرين، فرنر هايزنبرغ (Werner Heisenberg) من جامعة غوتنغن في ألمانيا في عام 1925، وتعتمد على صفات مبنًى رياضي معيّن يسمى المصفوفة (Matrix)، لهذا سميت نظريته "ميكانيكا المصفوفة" (Matrix Mechanics). أما النظرية الثانية فقد ظهرت في عام 1926 وأتى بها الفيزيائي النمساوي إرفين شرودنغر (Erwin Schrödinger) وتعتمد على معادلة تعامل الأجسام كأمواج، عرفت هذه النظرية باسم "ميكانيكا الأمواج" (Wave Mechanics). ظن الجميع في البداية بأن هاتان النظريتان تختلفان تمامًا عن بعضهما البعض، ولكن اتضح بعد حين أنهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة، بحيث أنهما تصفان نفس النظرية. تعرف هذه النظرية اليوم باسم نظرية الكم (أو ميكانيكا الكم) التي اتضح أنها، إلى جانب نظرية أينشتاين النسبية، العمود الفقري للفيزياء الحديثة.


المعادلة التي أتى بها شرودنغر، ليست معادلة موجة كلاسيكية بل هي في الحقيقة مزيجٌ بين معادلة الأجسام ومفاهيم من الأمواج. وهي مبنية على قانون حفظ طاقة الجسم الكلاسيكية التي تحكم تصرف دالةٍ معينةٍ، تسمى دالة الموجة ويرمز لها عادة بالحرف اليوناني، ψ! ولكن ماذا تعني هذه الدالة، وأي موجة تصف، وما علاقتها بما نقيسه في الطبيعة؟


أتى فهم معنى دالة الموجة في نهاية عام 1926 على يد ماكس بورن (Max Born) الألماني الذي بيّن أن تربيع القيمة المطلقة لدالة الموجة، |ψ|^2، هي ما يسمى كثافة الاحتمالات، أي أنها تصف إحتمال وجود هذا الجسم في مكانٍ معيّن. لكن ألا يعني هذا بأننا لا نعرف مكان الجسم المعين بشكلٍ قاطعٍ في أيّة لحظةٍ وبأنّ الجسم الذي تصفه هذه الدالة هو في الحقيقة غير موجود في مكان محدّد بل هناك احتمالٌ معينٌ بأنّه موجودٌ في كلّ مكانٍ تسمح به المجموعة الفيزيائيّة في نفس الوقت! يضرب هذا التفسير الاحتمالي والإحصائي لنظرية الكم حتمية موقع وسرعة جسم معين بعرض الحائط. فبعكس حتمية قوانين الطبيعة التي تصف موقع وسرعة الأجسام والتي تعود عليها الفيزيائيون منذ عهد نيوتن (تتواجد هذه الحتمية في كون بطليموس أيضًا)، استبدلتها ميكانيكا الكم بوصف احصائي، (لكنه وصف حتمي لتطور دالة الموجة التي تصف احتمال أن يكون لجسم موقع وسرعة معينة). إذا قبلنا بهذا التفسير فهذا يعني موت شيطان باسكال الذي ذكرناه سابقا ونهاية فكرة الكون كآلة تحدد به كل شيء منذ الأزل وحتى الأبد؟


وقع التخلّص من حتميّة قوانين الطبيعة كالصاعقة على كثير من العلماء وأولهم أينشتاين الذي رفض قبول هذا التفسير معتقدًا بوجود حقيقة أعمق من نظرية الكم بها، ما اسماه، متغيرات مستترة (Hidden Variables) نجهلها، وما التفسير الإحصائي لدالة الموجة إلا انعكاسٌ لهذا الجهل، أيّ أنّ نظرية الكم هي ليست الحقيقة الكاملة! وفي هذا السياق جاءت جملته الشهيرة التي ظهرت في رسالة كتبها لماكس بورن قال فيها "أنا، على أي حال، مقتنع تماما بأن [الله] لا يلعب النرد". سأعود لهذا النقاش بتوسّعٍ لاحقًا!


دعونا قبل الاستمرار في قصتنا نتوقف برهة لنتمعن في معنى أن يكون قانون طبيعة أساسي إحصائي بجوهره. نتوقع من قانونٍ طبيعي أن يعطينا نتائج حتميةً نعتمد عليها ونثق بها وهي صفةٌ أساسيةٌ في القوانين الكلاسيكيّة، فنحن نعتمد عليها عندما نسافر بالطائرة وعندما نعبر الشارع وعندما نركب السيارة أو نشعل الكهرباء والخ من نشاطاتنا اليومية العادية أو العلمية والتكنولوجية. في المقابل، يعني قانونٌ ذو طبيعةٍ احتماليةٍ بطبيعة الحال أنّ هناك عدم يقينٍ في المقدار الذّي نريد أن نعرفه، فكيف لنا مثلًا أن نسافر بالطائرة عندما نعلم بأننا لسنا على يقينٍ تمامًا إذا ما كانت ستطير أصلًا، حتى إذا كانت الطائرة في حالة تقنيةٍ ممتازةٍ؟ لأنّ ما لا نستطيع الاعتماد عليه هنا هي قوانين الطبيعة بذاتها! لتحديد هذه النقطة أكثر أعطي مثالًا يحدث في الطبيعة عن الجسيم الأوّلي المسمى بالميؤون (muon) وهو جسم غير مركب من أيّ جسمٍ آخر ويشبه الإلكترون في صفاته، لكننا نعرف أن الميؤون هو جسيمٌ غير ثابتٍ وينحلّ أو يضمحل (decay) إلى أجسامٍ أخرى أقلّ كتلة، خلال زمن قصيرٍ جدًا (جزئين من مليون من الثانية بالمعدل). تخيل أنّ هناك ميؤونين متطابقين تمامًا يعيشان تحت نفس الظروف الفيزيائية بالضبط. بحسب الفيزياء الكلاسيكية، الحتمية، يتصرف هذان الجسمان بشكل مطابقٍ تمامًا، ولكن ما يحدث في الواقع هو أنه بعد زمنٍ معيّن ينحلّ أحدهما قبل الآخر بحيث يبقى الثاني كاملًا كما هو لفترة أطول، بالرغم من أنهما متطابقان تمامًا! ليس لدينا أيّ طريقة نحدّد بها متى بالضبط سيحدث الانحلال وأي منهما سوف ينحلّ أولًا. هذه هي الطبيعة الإحصائية الغريبة لقوانين ميكانيكا الكم!


لكن كيف لنا أن نسمي معادلات ميكانيكا الكم "قوانين" إذا كانت لا تتنبأ بأي شيء حتمي، فهي لا تستطيع أن تبيّن لنا مثلًا أين يقع مدار الإلكترون في الذرة بالضبط، بل من الممكن أن يكون في أيّ مكان تبعاً لها. هذا صحيح، ولكنها قوانين، بمفهوم أنها تعطينا احتمال وجود الإلكترون في مكانٍ ما بشكلٍ حتمي ودقيقٍ جدًا، وهذه معلوماتٌ مهمّةٌ جدًا. هناك فرعٌ كاملٌ في الحقيقة في الميكانيكا الكلاسيكيّة يعطينا قوانين إحصائية عن طبيعة مجموعات معيّنة، يسمى "الميكانيكا الإحصائية". طُوّر هذا الفرع في القرن التاسع عشر ليتعامل مع التجمعات الكبيرة من الأجسام الصغيرة ليصف خواصها المتوسطة، مثل الحرارة والضغط. بالرغم من أنّ القوانين الكلاسيكية التّي تحكم كل جسيم صغير في هذه المجموعات الضخمة هي قوانينٌ حتميةٌ، إلا أن حلّ معادلات الأجسام جميعها في آنٍ واحدٍ هو مهمّةٌ مستحيلةٌ حتى لأكبر حاسوب لدينا. ففي متر مكعب من الهواء مثلا هناك حوالي 1025 جسيم (10000000000000000000000000 جسيم)، لهذا، من الأسهل أن نتعامل مع مجموعةٍ كهذه بشكلٍ إحصائي لنحسب خواصها العامة. هذا الفرع من الفيزياء الكلاسيكيّة هو فرعٌ هامٌ جدًا ودقيقٌ جدًا، ولكن الفرق بين الميكانيكا الإحصائية وميكانيكا الكم هي أنّ الأولى تعتمد قوانين الإحصاء لتتغلب على عدم قدرتها على حل معادلات كل جسيم بانفراد، أي تستعمله لتخبئ المتغيرات الحقيقية للمجموعة وتستبدله بقوانين ذات طابع إحصائي (هذا هو مصدر مصطلح المتغيرات المستترة الذي استعمله اينشتاين)، أما الثانية، أي ميكانيكا الكم، فطابعها الإحصائي هو أساسي حتى عندما تتعامل مع جسيمٍ واحدٍ فقط.


إذاً، هناك دائمًا خطأ معيّن أو بالأحرى لا يقين معين نتيجة لهذه الطبيعة الإحصائية لقوانين ميكانيكا الكم عند حساب موقع أيّ جسم، مصدرهُ عدم حتمية القوانين وليس خطأ القياس. يشبه هذا مراقبة شخصٍ ما وتحديد أنه داخل بيته ولكن من غير أن نحدّد في أيّ مكانٍ في البيت بالضّبط لأننا لا نستطيع مبدئيًا أن نعرف في أيّ مكانٍ في الداخل هو موجود، ولكن ماذا لو راقبنا هذا الرجل بشكلٍ مكثفٍ أكثر وزرعنا كاميراتٍ ومجسّات في داخل البيت، عندها بالطبع نستطيع أن نحدّد مكانه بدقةٍ أكبر، لكننا ندفع عندها ثمنًا غاليًا جدًا لمعرفتنا الدقيقة، كما تقول لنا نتيجة المبدأ الشهير المعروف بـ "مبدأ اللايقين" ( uncertainty principle) والذّي ينتج بشكلٍ طبيعي من نظرية الكمّ ! نشر هايزنبرغ في عام 1927 مقالًا بيّن فيه بأنّ هنالك في الطبيعة أزواجٌ من المتغيرات المرتبطّة ببعضها ارتباطًا عضويًا، مثل المكان والسرعة (الأصحّ أن نقول: كميّة الحركة)، اللذين لا نستطيع أن نعرف أحدها بدقة متناهية من غير أن نخسر معرفتنا عن المتغير الآخر بشكلٍ تام. أيّ في مثال الرجل داخل بيته، قد نستطيع أن نحدّد مكانه بدقّة متناهية ولكنّا عندها لا نستطيع، مبدئيًا، أن نعرف سرعته أبدًا، أو كما نصّ هايزنبرغ هذا: "كلما عرفنا مكان جسم بشكلٍ أدق، كلما نعرف كمية حركته بشكلٍ أقلّ دقة"، والعكس بالعكس. كذلك الأمر بالنسبة للزمن والطاقة وأزواجٍ أخرى من المتغيّرات لنفس الجسم. أعطى هايزنبرغ في نفس المقال معادلةً تعطي بدقةٍ حدود اللايقين، بحيث أن حاصل ضرب اللايقين بالمكان في اللايقين بكمية الحركة (الكتلة× السرعة) لنفس الجسم هو أكبر من عددٍ معيّن صغير جدًا، مرتبط بثابت بلانك الذي ذكرناه سابقًا (بصورةٍ رياضيةٍ العلاقة هي Δx⋅Δp≥h/4π، بحيث أن الحد Δxهو اللايقين في المكان، Δp هو اللايقين في كمية الحركة، hهو ثابت بلانك وπ≃3.14 هو النسبة التقريبية). مما يجدر ذكره بأنّ السبب الأساسي الذي يجعلنا لا نرى هذه العلاقة في حياتنا اليومية هو أن ثابت بلانك هو عدد صغير جدًا (h=6.626×10-34 m2kg/s)، لهذا نرى تأثير نظرية الكم فقط على أبعادٍ صغيرةٍ جدًا. تعدّ هذه العلاقة في الحقيقة الفرق الأساسي بين ميكانيكا الكمّ والميكانيكا الكلاسيكية، فلو كانت قيمة ثابت بلانك صفرا لما كان هناك أيُّ فرقٍ بينهما.


خيالٌ أم حقيقةٌ


لنستمر في عرض صفات نظرية الكم الأساسية. لقد رأينا مثلًا أننا لا نستطيع أن نتحدث عن مكان الإلكترون أو البروتون وغيرها من الجسيمات، فقد تكون موجودةً مبدئيًا في كلّ مكانٍ، بالضبط كما لا نستطيع أن نعرف مكان الموجة المستوية الممتدة المبيّنة في الصورة الأولى أعلاه فهي لا تحتل نقطةً معينةً في الفراغ الهندسي. يتناقض هذا مع مفهوم الجسم كما ندركه كلاسيكيًا ونستدلّ عليه من تجاربنا اليوميّة. فبحسب التفسير الرائج لفيزياء الكم (أنظر لاحقًا) الجسم هو مجرد غمامةٍ من الاحتمالات غير المحدّدةِ في نقطةٍ مكانيةٍ واحدة تظهر في مكانٍ معيّن فقط عندما نحاول رصدها.


الظاهرة التّالية المذهلة هي ظاهرة النفق الكمي (quantum tunnelling). بالرغم أنّ أغلب القرّاء، على الأرجح، لم يسمعوا عن هذه الظاهرة إلا أنها مهمةٌ جدًا في حياتنا نتيجةً لدورها في الترانزيستورات والديودات اللتان في قلب الأجهزة الإلكترونية الحديثة. لوصف هذه الظاهرة سنبدأ بالمقابل الكلاسيكي لها. تخيّل طفلًا يلعب بكرة القدم ويركلها باتجاه حائط، حسب الميكانيكا الكلاسيكية تصطدم الكرة بالحائط وتعود في اتجاه الطفل، أيّ أن الكرة تنعكس دائمًا. الآن، بدلًا من الكرة، لنتخيّل إلكترون يسير نحو حاجزٍ مثل الحائط الذي واجهته الكرة (يسمى هذا عادةً بالحاجز الجهدي potential barrier). نتوقع أن يصطدم الإلكترون بالحاجز وينعكس، كما يحدث للكرة، لكن ما يحدث في الحقيقة هو أكثر تعقيدًا. ينعكس الإلكترون في الغالبية العظمى من الحالات ولكن أحيانًا يخترق الحائط ويظهر في الجانب الآخر منه، كما لو كان مسحورًا! تسمى هذه الظاهرة "النفق الكمي"، التي بالرغم من غرابتها من الممكن فهمها إذا ما تعاملنا مع الإلكترون كموجة، فهناك جزءٌ من الموجة ينعكس ولكن هناك احتمالٌ بأن جزءاً منها يخترق الحاجز (أنظر صورة حاجز الأمواج في حيفا المبيّنة أعلاه. نلاحظ أن جزءاً من الموجة يظهر خلف الجدار).


هذا ما يحدث مثلًا عندما تشّع بعض أنوية الذرّة أشعة ألفا (alpha radiation) وغيرها من الإشعاعات النووية، فهي ببساطة جسيمات تخترق حاجز النواة الجهدي وتتحرّر كما تخترق أمواج الصوت حيطان غرفةٍ موصدة الإحكام. تبيّن الصورة المرفقة ظاهرة النفق الكمّي، دالة الموجة لجسمٍ معين ومبنية باللون الأزرق، تظهر الجسم محصورًا في يسار الصورة بواسطة الحاجز الجهدي المبيّن باللون الأحمر ولكن جزء من دالة موجة الجسم يستطيع أن يخترق هذا "الحائط" ليظهر في الطرف الآخر من الحاجز (يمين الصورة) كأن شخصا ما يسير عبر الحيطان ويخترقها كما لو كان شبحًا.


كما ذكرنا، من الممكن فهم هذه الظاهرة كما في حالة الأمواج بحيث أن جزءاً من الموجة "يدور" حول الحاجز ويسير خلفه كما في صورة كاسحة الأمواج في ميناء حيفا، ولكن من الممكن أيضًا فهمها بواسطة مبدأ اللايقين بين الطاقة والزمن الذي ذكرناه سابقًا، والذّي يسمح بأن يأخذ الجسم طاقة كبيرة جدًا لزمنٍ صغيرٍ جدًا (تذكر بأنّ مبدأ اللايقين ينصّ بأن محصل ضرب اللايقين في الزمن[Δt] باللايقين في الطاقة[ΔE] هي أكبر من رقمٍ صغيرٍ جدًا [Δt⋅ΔE≥h/4π]). قد تزيد طاقة الجسيم داخل الحاجز لفترةٍ قصيرة جدًا بحسب هذا المبدأ، بحيث يستطيع القفز فوق الحاجز والعبور للجانب الآخر.



لنعد الآن لتفحص ماذا يحدث عندما تقوم بتجربة شقي يانغ التي ذكرت أعلاه عندما نقوم بها بواسطة جسيمات، مثلًا إلكترونات، إذا فكرنا في هذه التجربة كلاسيكيًا (أيّ كما تمليه علينا تجربتنا اليومية) نتوقع أن يمرّ كل من الإلكترونات التي نطلقها أمّا من الشّق الأول أو الثاني لهذا نتوقع أن تحتشد الإلكترونات خلف الشقين في مجموعتين مختلفتين، تضم الأولى الإلكترونات التي مرّت من الشق الأول و تضم الثانية الإلكترونات التي مرت من الشق الثاني. لكن هذا ليس ما يحدث، إذ أنّ الصورة التي سنراها على الشاشة التي تقع خلف الشقين عندما نقوم بهذه التجربة، هي صورة نمط واضح يتوافق تمامًا في تجربة الأمواج، أي نجد نمط من التداخل (أنظر الصورة).


لكن هل هذا النمط هو نتيجة لتفاعل مجموعة الإلكترونات الكبيرة التي يطلقها مدفع الإلكترونات أم أنّ كلّ إلكترون على حدة يتصرف كموجة؟ نستطيع الإجابة على هذا السؤال بواسطة إعادة التجربة ولكن باستعمال مدفع الكترونات يطلق إلكتروناً واحداً كل مرة. ما نراه على الشاشة بعد أن ننتظر حتى يصبح عدد الإلكترونات التي انطلقت من المدفع كبير، هو أننا ما زلنا نحصل على نمط التداخل. أي أن الإلكترون الواحد يمرّ من الشقين معًا! أي أن من الإمكانيات المتاحة للإلكترون، أي أن يمر من الثقب الأول أو الثاني، يختار الإلكترون كلاهما فهو يمر معًا من الشقين! هذا يذكرنا ب "مبدأ التراكب" الذي ذكرته سابقًا وهو مبدأ أساسي في فيزياء الكم: إذا كان هناك العديد من الإمكانيات المتاحة أمام مجموعة فيزيائية تختار هذه المجموعة، وفقًا لفيزياء الكم، جميعها في آنٍ واحدٍ.






أحقًا تصدّق بأنّ القمر يكون موجودًا فقط حين أنظر إليه؟


هناك خطوةٌ أخرى في تجربة يانغ نستطيع أن نقوم بها. لنفرض الآن بأننا وضعنا جهازًا صغيرًا بجانب أحد الشقين يفحص عدد الإلكترونات التي مرت بهذا الشق، بالطبع نتوقع بأننا إذا قمنا بالتجربة مجددًا بأن نرى نمط التداخل مرة أخرى على الشاشة، لكن هذا ليس ما يحدث! بل ما يحدث هو أن الإلكترونات تتجمع في تجمعان اثنان تمامًا كما توقعنا في الحالة الكلاسيكية، أي عندها يمر كل من الإلكترونات من شق واحد فقط. لكن مهلا، ما الذي يحدث هنا؟ كيف يغيّر الإلكترون تصرفه بمجرد أننا راقبنا من أي شقٍ يمر؟ أليس من المفروض أن عملية القياس هي عملية موضوعية نقيس بها ما يحدث في الواقع من غير أن نؤثر عليه؟


بحسب التفسير الأكثر شيوعًا لنظرية الكم والمسمى تفسير كوبنهاجن (هنالك عدد من الصيغ لهذا التفسير) − نسبة إلى عاصمة الدنمارك التي هي موطن نيلس بوهر وموقع معهده الشهير− تلك هي صفات أساسية لهذه النظرية: المجموعة التي تعيش في كل الاحتمالات الممكنة عندما لم نكن نقيسها، مثلًا عندما يمر الإلكترون من مكانين معًا في نفس الوقت، تقرر عندما نحاول قياسها بأنها تتبنى فقط إمكانيةً واحدة، هذه في الحقيقة من أغرب صفات نظرية الكم وتسمى "مشكلة القياس" (the measurement problem)، وهي تقول بأنّ عملية القياس في نظرية الكم تجبر المجموعة الفيزيائية على اختيار حالةٍ معينةٍ ومحددة، ومن دونها تعيش هذه المجموعة كل هذه الاحتمالات معًا، أي أنّ القياس يملي على الطبيعة كيف تتصرف!


قد يناقش البعض بأنّ هذا ليس بجديد فكل عملية قياس، حتى في الفيزياء الكلاسيكية تؤثر على المجموعة التي نقيسها وتحمل في طياتها خطأ معينا، عادة ما يكون صغيرًا. هذا صحيح، ولكن الفرق أنه في الفيزياء الكلاسيكية نستطيع مبدئيًا على الأقل أن نحسب كيف ستؤثر عملية القياس على المجموعة بشكل حتمي. إضافةً إلى ذلك، الفيزياء الكلاسيكيّة تجزم بأن وضع المجموعة التي نقيسها هو نفس الوضع الذي نرصده بالتجربة، أي أن القياس التجريبي يعكس الواقع الموضوعي. أمّا في فيزياء الكم، لا يمكن حساب خطأ القياس والتنبؤ به بشكل حتمي لا عمليًا ولا مبدئيًا، إضافةً إلى ذلك، فإنّ عملية القياس لا تعكس كل الواقع الموضوعي لوضع المجموعة بل تجبر الطبيعة على اختيار إحدى إمكانيات وجودها. أيّ أنها تفكك دالة الموجة إلى مركباتها (مجموعة الإمكانيات المتاحة أمام المجموعة) وتجبرها أن تختار أحداها. يعني هذا أن المراقب الذي يقيس المجموعة هو ليس مراقبًا موضوعيًا لواقعٍ موجودٍ بمعزلٍ عنه، بل هو مشاركٌ في تحديد هذا الواقع! يناقض هذا أحد الفرضيات العلميّة الأساسيّة ويلقي بظلال الشك واللايقين على طبيعة الواقع الموضوعي، إن لم يكن على وجوده جملةً وتفصيلًا.


أثار هذا التصرف المذهل والغريب الذي قبله أتباع مدرسة كوبنهاجن حفيظة عدد من العلماء الكبار وعلى رأسهم أينشتاين، الذي كان أحد "أجداد" نظرية الكم، و إرفين شرودنجر، أحد آبائها المؤسسين. لتوضيح عبثية مسألة القياس في نظرية الكم بحسب هذه المدرسة، تخيل إرفين شرودنجر تجربةً ذهنيةً (thought experiment) مشهورةً تعرف بإسم تجربة "قطة شرودنجر" (Schrödinger’s cat). والتجربة هي كما يلي: تخيل أنك وضعت قطةً في صندوق محكم ومغطى، وضعنا في الصندوق مع القطة زجاجة دقيقة من مادة السيانيد السامة، وعلبة بها مادة ذرية مشعة تطلق جسيمًا واحدًا كلّ ساعةٍ بالمعدل، لا نستطيع كما ذكرت سابقًا أن نتنبأ متى بالضبط ستطلق المادة المشعة جسيمًا فقد يكون هذا بعد ساعة أو أقل أو أكثر، لكن عندما تطلق المادة المشعة الجسيم يؤدي هذا الجسيم إلى تشغيل مطرقة تكسر قارورة السم، وبالتالي إلى موت القطة. السؤال الذي سأله شرودنجر هو: بعد ساعة من الزمن هل القطة حية أم ميتة؟ وهذا السؤال أعقد مما يبدو، فقبل أن نفتح الصندوق لنفحص هناك إمكانيتان أمام المادة المشعة فإما أن تكون قد أطلقت جسيماً أو لا، لكن كل من الحالتين لها إسقاطات مختلفة على القطة فقبل انطلاق الجسيم القطة حية ترزق وبعد انطلاقه تصبح ميتة لا روح فيها. لكن كما ذكرنا، بحسب تفسير كوبنهاجن قبل القياس (أي فتح غطاء الصندوق) تكون المادة المشعة في الحالتين معا، أي حالة بعد إطلاق الجسيم وبنفس الوقت في حالة قبل إطلاقه (تمامًا كما يمر الإلكترون من الشقين معًا في تجربة يانغ)، إذا حسب تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم، تكون القطة حية وميتة في نفس الوقت. سأكرر، لا تكون القطّة إما ميتة أو حية بحسب هذا التفسير، كما تقول الفيزياء الكلاسيكية، بل القطة حية وميتة في نفس الوقت، لأن الحالتين متاحتين لها. هذا حتى نقوم بفحص الصندوق، عندها وعندها فقط، تقرر المجموعة على أي من الحالتين ستستقر! وهذا بالطبع رفضه شرودنجر، كما يرفض قبوله جميعنا أيضًا، لأنه مناقض للعقل والمنطق. لكن الأمور ليست بهذه السهولة إذ أن عملية القياس هي عملية كلاسيكة بجوهرها (تعطي معلومات محددة عن الواقع) والعلاقة بين عالم الكم الذي مسرحه أصغر الأبعاد والعالم الكلاسيكي الذي يقطن في عالم الأبعاد المعتادة لنا هي علاقة غير واضحة ويجب أن تدخل في محاولة تفسير مثل هذا الوضع.







دعا هذا الواقع الغريب الذي تمليه علينا بعض تفسيرات ميكانيكا الكم أينشتاين أن يسأل أحد أترابه وهو أبراهام بييز (Abraham Pais) الذي كان من المؤمنين بتفسير كوبنهاجن لنظرية الكم حين كانا يتحدثان عن طبيعة الواقع: "أحقا تعتقد بأن القمر يكون موجودًا فقط حين أنظر إليه؟" وهو سؤالٌ افتراضي يعكس مدى هذا التعقيد الذي تفرضه علينا نظرية الكم حين نحاول أن نفهم طبيعة الواقع، على هذا أجاب بوهر "مهما حاول أينشتاين فهو لن يستطيع إثبات وجود القمر حينما لا ينظر إليه". يشبه سؤال أينشتاين هذا سؤال الفيلسوف الإنجليزي باركلي "هل تصدر شجرة إذا سقطت في غابة صوتًا إذا لم يكن هناك من يسمعها؟".


التشابك الكمّي (Quantum entanglement)

[* قد يكون مضمون هذا القسم من المقال صعبا على القارئ. بالامكان تخطيه إلى القسم التالي من دون فقدان الاستمرارية.]


بقي أينشتاين حتى نهاية حياته غير مقتنعٌ بأنّ نظرية الكم هي النظريّة الأخيرة وأنها تعكس حقيقة الواقع كما هو. ومعارضته كان لها دورٌ كبيرٌ في تحديد وتوضيح الأسئلة العميقة التي تكمن خلف هذه النظرية والإسقاطات المذهلة التي تحملها في طياتها عن طبيعة الواقع وموضوعيته. شن في عام 1935 أينشتاين أهم حملاته على قلعة نظرية الكم التي كانت في ذلك الوقت قد وجدت الكثير من الدعم التجريبي والتطبيقي. أتى هذا الهجوم على شكل مقال كتبه مع زميليه بوريس بودولسكي (Boris Podolsky) ونتان روزن (Nathan Rosen، الذي علمني موضوع النظرية النسبية العامة) ويعرف هذا المقال باسم EPR نسبة لمؤلفيه الثلاثة. لم يتحدى مؤلفو هذا المقال الطبيعة الإحصائية لنظرية الكم بل تعمدوا إلى انتقاد ما هو أعمق بكثير وهو مفهوم هذه النظرية للواقع نفسه.


هناك في صلب المقال تجربةٌ ذهنيةٌ سأحاول تبسيطها كما يلي: لنفرض أننا هيئنا مخبريًا جسيمين لكل منهما صفتان فيزيائيتان A و B تخضعان لمبدأ اللايقين، بحيث أننا إذا عرفنا A1، أي A للجسم الأول، بدقة كبيرة لا نستطيع أن نعرف B لنفس الجسم، أي B1 . هذا طبعا لا يعني أننا لا نستطيع معرفة A1 بدقة متناهية للجسم الأول و B2 للجسم الآخر في نفس الوقت، والعكس بالعكس. لنفرض أننا هيئنا المجموعة بحيث أنّ A الكلي للجسمين هو صفر (0=A1+ A2) و Bالكلي للجسمين مجتمعين هو أيضًا صفر (0= B1 + B2). مثلًا جسم ساكن ينقسم إلى اثنين. ينطلق كلّ من هذان الجسمين في اتجاه معاكس حتى يبتعدان عن بعضهما بعدا كبيرا بحيث يصبحا في الطرفين المتعاكسين لمجرتنا ولا يؤثر الواحد منهما على الآخر. لنفرض الآن أن هناك مراقب في الطرف الأول للمجرة يقيس الصفة A1 للجسم الأول، طبعا، بحسب مبدأ اللايقين، لا نستطيع عندها أن نقيس الصفة B1 لنفس الجسم. وفي الجهة الأخرى من المجرة هناك مراقبٌ آخرٌ يقوم بقياس الصفة B2 للجسم الثاني، لكن بما أنّ محصلة الصفة A للجسمين هي صفر(A1+A2=0) نستطيع أن نعرف قيمة A2 للجسم الثاني بمجرد قياس قيمة A1. كذلك الأمر بالنسبة للصفة B، بحيث إذا قسناها للجسم الثاني تستطيع أن نعرف قيمتها للجسم الأول. أي أننا نستطيع معرفة المقادير الأربعة لهذان الجسمان بواسطة عمليتي القياس المذكورتين. تطرح هذه التجربة سؤالين، الأوّل هو: بما أنّه حسب تفسير كوبنهاجن، الجسم الأول لا يعرف ما هي قيمة A1 حتى يتم قياسها، كيف إذا يعرف الجسم الثاني ما هي قيمة A2 التي يجب أن يحصل عليها، إلّا إذا انتقلت المعلومات من الجسم الأول للثاني بسرعة لا نهائية؟ تذكر لقد ابتعد الجسيمان ابتعادًا كبيرًا عن بعضهما لأنهما في طرفي نقيض من المجرة! السؤال الثاني هو: ألم نستطيع أن نعرف بهذه الطريقة قياس الصفتين A1 و B2 بدقة متناهية بواسطة القياس المباشر و A2 وB1 بشكلٍ غير مباشر؟ ألا يناقض هذا مبدأ اللايقين؟








لهذا يستنتج مقال EPR بأنّ هناك خلل مبدأي في نظرية الكم. أو كما ذكر المقال: "لهذا يستخلص المرء بأن وصف الواقع بواسطة دالة الموجة [الكمية] هو غير كامل."


هناك فرضية أساسيّة في هذا المقال وهي أن الواقع الفيزيائي محلي أو بكلمات أخرى يخضع لمبدأ المحلية (Principle of Locality)، أي أن ما يحدث في مجموعة معينة هنا لا علاقة له بما يحدث في مجموعاتٍ بعيدة جدًا عنها وهو بحسب أينشتاين وزملائه مبدأ أساسي في الطبيعة. كان رد أنصار مدرسة كوبنهاجن جوهريًا أن مبدأ المحلية لا ينطبق على فيزياء الكمّ، وهو ما يسمى بالترابط الكمي (Quantum entanglement)، أيّ أنه إذا كان هناك جسيمان في تفاعل في أي وقتٍ في الماضي فنحن لا نستطيع عندها وصفهما كجسمين مستقلين حتى إذا كان البعد بينهما كبيرًا جدًا.


المذهل أنه في عام 1964 اقترح العالم الايرلندي الأصل جون ستيوارت بيل (John Stewart Bell) نظريةً خلّاقةً تُمَكّن من فحص أيّ التفسيرين هو الصحيح، تفسير أينشتاين أم تفسير مدرسة كوبنهاجن. وبالفعل قام عددٌ من الفيزيائيين التجريبيين بفحص هذه النظرية ليجدوا أنّ الطبيعة تتفق مع مدرسة كوبنهاجن وليست مع أينشتاين وتفسيره الذي ادعى بأن نظرية الكم ليست نظرية كاملة، أيّ أن الترابط الكمي هي صفة حقيقية للطبيعة! وهي حقيقة غريبةٌ جدًا وتبدو غير منطقيةٍ أبدًا، إذ أن جسماً ما في مكان معين، كان قد تفاعل في الماضي مع جسم آخر، هو الآن مرتبط به حتى لو كان في الطرف الآخر من الكون، وهي ميزة قال وصفها أينشتاين: "تفاعل مخيف من بعيد" (spooky action at a distance)!


تفسيرات نظريّة الكمّ


كما رأينا فإن فهم معنى قوانين نظرية الكم وإسقاطاتها على طبيعة الواقع ومعناه هو أمرٌ في غاية الأهمية، لكن بالرغم من أهميته فهو أمر يشغل في الأساس فلاسفة العلوم، لأن أغلب الفيزيائيين يستعملون قوانين نظرية الكم ويطوّرون تطبيقاتها من غير التساؤل عن معناها الفلسفي العميق ويقبلونها كما هي. فهذه النظرية، بالرغم من الأسئلة التي تثيرها، هي أنجح نظرية فيزيائيّة عرفها البشر في تاريخهم وتصف بدقةٍ كبيرةٍ الأغلبية الساحقة من الظواهر من حولنا (باستثناء المجموعات التي تحتاج أيضًا نظرية أينشتاين للجاذبية). من أجل تطوير فهم عميق لنظرية الكم هناك أكثر من 20 تفسيرًا مختلفًا لقوانينها ومعناها التي اقترحت من قبل فيزيائيون و فلاسفة. ما يشغل هذا التفسيرات هو المعنى العميق لنظرية الكم وعلاقتها بالواقع الموضوعي، ما هي العناصر الحتمية والاحتمالية في هذه النظرية، ماهية وتصنيف الادعاءات الأنطولوجية (التي تتعلق بما هو موجود) والابستمولوجية (التي تتعلق بكيفية معرفة ما هو موجود) التي تحملها هذه النظرية، ما هي الصفات المحلية (local) والصفات المترابطة (entangled)، كيف نفهم دور المراقب في تحديد نتائج التجارب، والخ.


لا يسعني هنا ذكر كل هذه التفسيرات ولكني سأذكر باقتضاب شديد بعض التفسيرات المهمة منها. لقد ذكرنا حتى الآن ثلاثة من هذه التفسيرات، الأول هو تفسير مدرسة كوبنهاجن، الثاني هو تفسير أينشتاين والمتغيرات المستترة، والثالث هو توجه محايد، وهو كما ذكرت توجه أغلب الفيزيائيين.


سأبدأ بأحد أكثر التفسيرات إثارةً، وهو التفسير المعروف باسم "تفسير العوالم المتعدّدة" (many-worlds interpretation)، الذي اقترحه عام 1957 هيو إيفرت الثالث (Hugh Everett III). يرفض هذا التفسير الفرضيّة القائلة بأن التجربة تُرغم الطبيعة على اختيار إحدى الإمكانيات الموجودة أمامها، بل يفرض بأنّ الكون يختار كل الإمكانيات المعروضة أمامه ولكن لكل من هذه الخيارات ينشأ عالم مختلف يتطور، بعد هذا الاختيار، بشكلٍ منفصلٍ عن العوالم التي تمت بها اختيارات أخرى. وهو تفسير يحلّ بعض إشكاليات نظرية الكم ولكنه يقترح وجود عوالم متوازية تخلق عند كل عملية قياس (أي تفاعل) بيننا وبين المجموعات الكمية، وهو أمر يحدث كل الوقت. هذا التفسير يدخلنا في متاهات فيزيائية وفلسفية فهو يبدو، لأول وهلة على الأقل، أنه يفسر وضع معقد بواسطة وضعٍ أكثر تعقيدًا. المفاجئ في الأمر هو أن هذا التفسير يجد قبولًا عند عدد لا بأس به من الفيزيائيين وهو يدخل ضمن إطار النظريات متعددة الأكوان (multiverse theories).


التفسير الأخير الذي أذكره هنا هو أيضًا مثيرٌ للاهتمام والجدل، ويسمى "الإدراك يؤدي للانهيار" (consciousness causes collapse)، والقصد هنا انهيار دالة الموجة لتختار إمكانيةً واحدةً من كل الإمكانيات المتاحة لها. ويدعي مقترحو هذا التفسير، جون فون نيومان ((John von Neumann، وهو أحد آباء الحاسوب الحديث) ويوجين ويغنر (Eugene Wigner)، بأنّ عملية القياس تتطلب كائنًا واعيًا للقيام بها وهو جزءٌ لا يتجزأ من التجربة. أيّ أنّ وعينا هو الذي يتفاعل مع المجموعة التي نريد قياسها ويجعلها تأخذ حالة معينة خلال عملية القياس. وقد يبدو هذا التفسير غريبًا لأول وهلة، ولكن في السنوات الأخيرة تزداد الدلائل حول الطبيعة الكمية للعمليات البيولوجية التي تتحكم في إدراكنا. تعتبر المجموعات البيولوجية عادةً مجموعات كلاسيكية ولكن هناك اعتقاد بأن فيزياء الكم قد تلعب دورًا في عملية الإدراك والتفكير التي تحدث في الدماغ. بدأ هذا الاعتقاد مع كتاب الرياضي الشهير روجر بنروز (Roger Penrose) بعنوان "عقل الإمبراطور الجديد" (The Emperor's New Mind) والتي اقترح بها بأن حل لغز الإدراك يكمن في مجال الأبعاد التي يتم بها الانتقال من فيزياء الكم إلى الفيزياء الكلاسيكية. ولكن قد يطرق هذا السؤال أذهاننا: ما لهذا وللتجارب المخبرية؟ ما علاقة الطبيعة الكمية لعملية الإدراك والكترونات التي تتداخل في تجربة يانغ؟


تشكك هذه الأسئلةٌ المثيرةٌ في وجود واقع موضوعي محدد. يبدو هذا التفسير لي مبالغا فيه، ينجرف على أمواج الحماس لهذه النظرية الخلابة، فماذا إذا حضّرنا تجربةً ودربنا كلبًا ذكيًا بأن يقوم بتشغيلها ونحن بعيدون عن المختبر، هل عندها يحدد نتيجة التجربة وعي الكلب؟ وإذا كان هذا فكيف لا تفرق الطبيعة بين وعينا ووعي الكلب بل تعطينا نفس نتائج التجربة؟ باعتقادي الطبيعة لا تحتاجنا كي تكون، فهي حقيقيةٌ بغض النظر عن إذا رصدناها أم لا، فهي ليست كجمال حبيبة يراها عشيقها آيةٌ في الحسن بينما يراها الآخرون امرأةً عادية. الطبيعة هي واقع موضوعي لا يحتاجنا ليكون ولو بشكلٍ جزئي! المثير للاهتمام في الأمر بأن أغلب هذه التفسيرات عادةً ما تثير أسئلة أشد غرابة من النظرية التي تحاول فهمها، فبدلًا من تسهيل إدراك الطبيعة علينا، تجعلنا كالمستجير من الرمضاء بالنار.


لربما علينا أن نقبل نظرية الكمّ من غير تساؤلات ونتبع نصيحة: احسب واصمت. ولكن إذا قبلنا هذا نصبح كالحاسوب الذي يقوم بحساباتٍ معقدًةٍ جدا ولكنه لا يفقه شيئًا ممّا يحسبه. فجمال الفيزياء والطبيعة بالنسبة لنا تكمن في عملية الإدراك التي من غيرها نفقد الميزة الأساسية من دراستنا للطبيعة، وهي محاولة فهمها!ّ هذا الفهم وإن كان صعبًا، منقوصًا، وحتى غير دقيق، هو الذي يرفعنا عن مرتبة الآلة التي تنفذ سلسلة من التعليمات التي غذاها بها أحدهم. إذا، فليحسب من يشاء وليصمت من يشاء ولكن هذا لا يعفينا من واجب المعرفة ولا التمتع بنشوة فهم الطبيعة.


الإرادة الحرّة


لا يسعني هنا الدخول في كل الإسقاطات الفلسفية لنظرية الكم ولكني أود أن أذكر باقتضاب شديد بعض النقاش الفلسفي على الرغم من كونه خارج بؤرة تركيز وسياق هذا المقال. وهو العلاقة بين الحتمية والإحصائية في قوانين الطبيعة وعلاقتها بالإرادة الحرّة. كما رأينا، أدت الحتمية في الفيزياء الكلاسيكية بالبعض إلى الاعتقاد بأن "شيطان لابلاس" يعرف كيف سيتطور الكون في كل لحظة. إذا كان هذا صحيحاً فالإنسان أيضًا، المكوّن من جسيمات مادية، لا يستطيع التحكم بتصرفاته لأن كل شيء قد قرر مسبقًا بحسب قوانين الطبيعة. إذا بحسب هذا المنطق نحن غير مسئولين عن أفعالنا مهما كانت رديئة أو جيدة، ولا يحق لأي سلطة، قانونية أو دينية أو غيرها، محاسبتنا عليها! ولكن هذا لا يطابق تجربتنا اليومية فنحن نقوم بخيارات كل الوقت، أي شيء نأكل اليوم، أي ثياب نلبس، ماذا نقرأ، كيف نتعامل مع أصدقائنا، وغيرها من آلاف القرارات اليوميّة التي نتخذها، والتي كان من الممكن أن نقرر غيرها. هذه كانت المشكلة الأساسية لمفهوم الارادة الحرة مع حتمية قوانين الطبيعة.


تحل نظرية الكم لأول وهلة هذه التناقض، لأن الطابع الإحصائي والاحتمالي لقوانينها، يترك المجال أمام نتائج مختلفة بالرغم من أن الظروف تكون مماثلة. فقد يقرر أحدهم أن يتصرف بشكلٍ معين بينما يقرر شخص آخر أن يتصرف بشكل مغاير تحت نفس الظروف. في الحقيقة، لم تحل مشكلة الإرادة الحرة، كما تعرف بالفلسفة، مع قدوم فيزياء الكم، بل اتخذت شكلًا آخر. فقد تحول السؤال من كيف يمكن لقوانين حتمية أن تسمح بوجود إرادة حرة، إلى سؤال آخر وهو، كيف يمكن لقوانين إحصائية عشوائية أن تحكم حرية إرادتنا وأن تترجم إلى خيارات منطقية مبنية على العقل والتحليل. فإذا كانت الحتمية تدمر حرية الإرادة، فإن القوانين الإحصائية تحولها لإرادةٍ عشوائية، اعتباطيةٍ وغير منطقيةٍ. هناك الكثير ممّا يمكن أن يقال هنا بالطبع ولكني أكتفي بهذا القدر وأنصح القارئ المهتم بقراءة أحد المصادر العديدة التي كُتبت عن هذا الموضوع.





الجزء الثالث: طاقة العدم ونشوء الكون




طاقة اللاشيء



كما ذكرت في البداية، الهدف الأساسي من هذا المقال هو فحص علاقة نظرية الكم في الكون وتكوينه. ولكن لنرى هذه العلاقة علينا الاطلاع أولا على صفةٍ أخرى من الصفات غير الاعتيادية لنظرية الكم، إلّا وهي صفات الفراغ (vacuum العدم)[1]. الفراغ في الفيزياء الكلاسيكية هو مكان خاوي لا يحوي شيئا ولا توجد به أيّ فعالية أو "حياة"، أما في فيزياء الكم فالفراغ يعج بالحياة، و بحالةٍ دائمةٍ من ولادة الأجسام واندثارها على الرغم أنه مبدئيًا خاوٍ تمامًا. أحد أهم صفات الفراغ في فيزياء الكم هي أن له طاقة، ولكن كيف يكون للعدم طاقة؟ لنجيب على هذا السؤال، علينا أن نعود إلى مبدأ اللايقين المتعلق بالطاقة والزمن الذي ذكرناه سابقًا. تسمح نظرية الكم بحسب هذا المبدأ بإنتاج طاقة كبيرة لزمنٍ قصيرٍ جدًا حتى في مكانٍ خاوٍ من أي شيء. لهذا، حتى في الفراغ التام حيث نعتقد أنه لا يوجد شيء، تتأرجح الطاقة في أي نقطة في الفضاء لقيم مختلفة، منها الطفيف جدًا ومنها المرتفع جدًا، بشرط أن يختفي هذا التأرجح خلال وقتٍ قصيرٍ جدًا بحيث يخضع لمبدأ اللايقين. ولكن في اللحظة الذي ينتج هذا التأرجح الكمي طاقة عالية من هذا النوع في مكان ما، تتحول هذه الطاقة بحيث "ينبثق" عنها جسيمان، جسيم وجسيم مضاد (particle and antiparticle) التي تسمى بالجسيمات الافتراضية (virtual particles)، لأنها كما ذكرنا، ينشئآن لزمنٍ قصيرٍ جدًا ومن ثَمّ يندثران. يجدر التنويه إلى أنّ الجسيم المضاد يشبه الجسيم في كل شيء ما عدا شحنته الكهربائية المعاكسة تمامًا لشحنة الجسيم (بمعنى شحنة سالبة وموجبة)، وإذا التقى جسيمان من هذا النوع يلغي أحجهما الآخر و يتحولان إلى جسيماتٍ أخرى (مثلا فوتونات). إذًا في عالم فيزياء الكم الغريب فإنّ الفراغ الذي لا يحوي شيء هو في الحقيقة بحرٌ هادرٌ من الفعالية والنشاط.


الآن، لنتخيل فراغًا يعج بمثل هذه الأزواج التي تخلق وتندثر بأسرع من لمح البصر. طاقة الفراغ في هذا العالم ليست صِفْرًا، لأنّ تفاعل هذه الأجسام، التي تنتج في نقاط عديدة في الفضاء، مع بعضها البعض يعطي للفراغ طاقة معينة، صغيرةً جدًا، ولكنها أكبر من صفر. وهذا مفهوم من الصعب قبوله، إذ كيف يمكن لمكانٍ فارغٍ تمامًا أن يحمل طاقةً، مهما كانت صغيرةً؟ هل يوجد لهذا الإدعاء أي دعم تجريبي؟ اقترح الفيزيائي الهولندي هندريك كازيمير (Hendrik Casimir) في عام 1948 تجربةً لفحص وجود طاقة الفراغ. وبالفعل، تم إجراء هذه التجربة التي أثبتت صحة تكهنات نظرية الكم من ناحية وجود طاقة الفراغ ومن ناحية قيمة هذه الطاقة. إذًا، الفضاء الخاوي في نظرية الكم هو كخلية نحلٍ أو كفَرَس امرئ القيس، مليء بالفاعلية والنشاط، تتأرجح فيه الطاقة كأمواج البحر راقصةً بين نشوء الجسيمات واندثارها، في دورةٍ مستمرةٍ من الحياة والموت، تتفاعل فيها هذه الأجسام الإفتراضية التي تنتج في اللاشيء مع بعضها البعض في عربدة صاخبةٍ مكتظةٍ بالحياة. يسمى هذا التماوج الهادر من نقطة لأختها، بالتذبذب الكمي.

الكون ونظرية الكم


نأتي الآن للكون وارتباطه بفيزياء الكم! أود، في البداية، أن أشدّد مجددًا على العلاقة الوثيقة بين التجربة والرصد من جهة، والفهم النظري لطبيعة الواقع من جهة أخرى. صحيحٌ أن النظرية العلمية تختلف جوهريًا عن النظرية الرياضية، لأن الأخيرة يمكن إثباتها بواسطة المنطق الاستنباطي (deductive logic)، أي أن صحتها محتمة إذا كانت فرضياتها الأولية صحيحة. بينما هذا غير ممكن في حالة النظرية العلمية التي تستمد مصداقيتها من نجاحها التجريبي ومن قدرتها على التنبؤ بحيثيات الواقع الموضوعي، أيّ أنّ النظرية العلميّة رهن الامتحان دائمًا. ولكن مع تراكم الدلائل التي تتماهى معها تكتسب النظرية العلمية موقعًا مميزًا، بحيث تتعدى كونها "مجرد نظرية"، فهي على الأقل ظاهريًا تقول لنا شيئًا، ولو بشكلٍ تقريبي، عن الحقيقة العميقة الكامنة في ظواهر الطبيعة. قد يتضح في النهاية بأنّ نظرية علمية معيّنة، بالرغم من نجاحها الباهر سابقًا، هي في الحقيقة خطأ، كنظرية نيوتن حول الجاذبية. ولكن بالرغم من هذا فقد بقيت ذات منزلةٍ خاصّةٍ لأنها تصف الطبيعة بشكل تقريبي في أغلب الظروف. أيّ أن شرعية النظرية العلمية تستقى من نجاحها في وصف الواقع.


هذا هو حال نظرية الانفجار الكبير، العمود الفقري لفهمنا العصري للكون، فهي تبدو خياليةً للقارئ غير الخبير. تتنبأ هذه النظرية في الواقع وتتلائم مع كميةٍ هائلةٍ من المعطيات، التي ما زالت تتدفق بتسارعٍ طردي والتي تغطي أزمان وأبعاد الكون المختلفة. إنّ نجاح هذه النظرية منقطع النظير ليس فقط لأنها تقول لنا ما حدث في بداية الكون بل لأنها تزودنا بتسلسلٍ زمني، فراغي (بمفهومٍ هندسي) ومنطقي لكوننا، بحيث تحوّله من مجموعٍ هائلٍ من الظواهر والأحداث المنفصلة غير المرتبطة إلى واقعٍ واحدٍ ذو عمودٍ فقري متناسقٍ يمتد عبر الزمان والمكان.


تلعب نظرية الكم دورًا أساسيًا في فهمنا للكون ومراحله المختلفة، وهو موضوعٌ أتناوله في مكان آخر. ولكن ما أتناوله هنا هو دور طاقة الفراغ (العدم) في الكون اليوم وفي اللحظات الأولى لنشأته.



[1]يجدر التنويه بأن كلمة فراغ تستعمل كثيرا في اللغة العربية بمفهوم فضاء (space)، أي مجموعة النقاط المتخيلة التي تقطن كل منها في مكان مختلف وتحدد هندسة (geometry) المجموعة. في هذا المقال نستعمل كلمة فراغ بمفهوم آخر، أي بمفهوم المجموعة التي لا تحوي شيء (vacuum).

.


طاقة العدم المركب الأساسي في كوننا اليوم


من أبرز إنجازات علم الكون في العقدين الأخيرين هو نجاح العلماء بقياس الطاقة الكامنة في مركباته، ولهذا قصة مثيرةٌ سآتي عليها في مكان آخر. أذكر هنا، لحاجة موضوعنا، النتائج الأساسية لهذه القياسات التي حملت معها عدد من المفاجآت. النتيجة الأولى هي نسبة مركبات الكون الأساسية اليوم (انظر الرسم):







المادة العادية: نعني بهذا ببساطة المادة التي تكوّن أنوية العناصر الكيماوية، أي البروتونات والنيوترونات (المكوّنَة بدورها من الكواركات quarks). تسمى هذه المادة على لسان الفيزيائيين المادة الباريونية (baryonic matter)، وتشكل هذه المادة تقريبًا 5% فقط من مركبات الكون. لنتمعن بهذا قليلا، نسبة المادة الباريونية الضئيلة تخبرنا بأننا مصنوعون من مكوّنٍ جانبي صغيرٍ من مركبات الكون. وهذا بمفهوم معين امتدادًا للثورة الكوبرنيكية التي خلعت الكرة الأرضية، وبالتالي، الإنسان "أسمى المخلوقات"، عن عرش موقعها المركزي في الكون. فنحن لا نقع في مركز المجموعة الشمسية فحسب، بل شمسنا هي نجمٌ عادي يدور في فلك مجرةٍ عادية، وهي بدورها مجرد مجرة من مئات مليارات المجرات في الكون المرئي. هذا الانتقال المذهل من الإنسان كمحور الأشياء وعلة وجودها، إلى كائن جانبي يعيش على كوكب صغير مصنوع من مادة هامشية، هو برأيي التجسيد الأوضح للثورة العلمية التي ما زالت تحلق بنا على جناحيها.


المادة المعتمة (dark matter): وهي مادةٌ مكونةٌ من جسيماتٍ تتفاعل بشكلٍ ضعيفٍ جدًا مع المادة الباريونية، وهي لا تشارك في القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية القوية التي تحملها البروتونات والنيوترونات. نتيجةً لذلك من الصعب اكتشاف تأثيرها من حولنا إلا عندما ننظر إلى مجموعات فيزيائية كبيرة جدًا، كالمجرات بحيث نستطيع رصد تأثير هذا الشكل من المادة عن طريق تفاعلها مع قوة الجاذبية، أضعف قوى الطبيعة. وتشير القياسات العديدة أن المادة المعتمة تكون 25% تقريبًا من مركبات الكون.


الطاقة المعتمة (dark energy): وهي أحد أكبر المفاجآت التي اكتشفت في العشرين عامًا الأخيرة. وهي عبارة عن طاقةٍ كامنةٍ تدفع في الكون إلى التسارع، لا التباطؤ في الانتشار كما كنا نعتقد سابقًا. وهذه الطاقة مرتبطة تاريخيا باقتراح الثابت الكوني، الذي أضافه أينشتاين عام 1916 إلى معادلته الشهيرة بهدف الحصول على كون ساكن، بحيث لا ينتشر ولا يتقلص. وتشكل هذه الطاقة 70% من مركبات الكون. يتعلق الفهم الحديث لهذه الطاقة بطاقة الفراغ الكمية. انتشار الكون المتسارع يدفع بكثافة المادة إلى قيمٍ صغيرةٍ جدًا تتلاشى بتسارعٍ مع مرور الزمن، أي يقترب الكون حاليًا من الفراغ المطلق. وكما ذكرنا، بحسب نظرية الكم يحمل هذا الفراغ طاقة، إنها هذه الطاقة التي تكوّن 70% من مركبات الكون. أي أن المركب الأساسي للكون الآن هو طاقة العدم التي نستطيع فهمها فقط بواسطة نظرية الكم!


الغريب في الأمر بأننا نعرف أنّ المادة المعتمة والطاقة المعتمة تشكلا 95% من مكونات الكون، ولكننا لا نعرف طبيعتها بوضوح.



تذبذب كمي من العدم


إذًا المفاجأة الأولى كانت أن طاقة العدم هي المهيمنة اليوم في كوننا. لكن هناك نتيجةٌ أخرى ذات إسقاطاتٍ مذهلةٍ وهي الطاقة الكلية للكون. إذ أصبح الآن واضحًا أن مجموع مركبات الطاقة في الكون قريبةٌ جدًا من الصفر! وهي نتيجة مهمةٌ جدًا ولكنها غير مفاجئة لأسباب عديدة لن أخوض بها هنا. السؤال الأول الذي يُسأل هنا هو: كيف يمكن للطاقة في الكون أن تكون صفرًا ونحن نرى أنه مليء بالمادة والحركة والأشعة الكهرومغناطيسية كل الوقت؟ ألا تعطي هذه الأجسام والأشعة طاقة ايجابية؟ إذا كيف للطاقة الكلية للكون بأن تكون صفرًا؟ الإجابة على هذا السؤال بسيطة، فبالإضافة لمصادر الطاقة الموجبة، هناك أيضًا طاقة الجاذبية وهي طاقةٌ سالبةٌ (لأنه علينا أن نوظف طاقة من الخارج لنفصل جسمين يجذبا بعضهما بقوة الجاذبية) تعادل بالضبط أنواع الطاقة الموجبة في الكون، وهذه حقيقة مذهلة لأنه كان بإمكان طاقة الكون أن تأخذ مالا نهاية من القيّم السالبة أو الموجبة، لكنها اختارت أن تكون بالضبط صفرًا. لهذه النتيجة سبب عميق سوف أتطرق إليه في مكان آخر.


لكن من أين أتى الكون؟ كيف نشأ؟ هنا أيضا تأتينا نظرية الكم بإجابة. لنتذكر بأن نظرية الانفجار الكبير تعني أن حجم الكون في بدايته كان صغيرًا جدًا بحيث تسيطر عليه نظرية الكم. الصورة التي يجمع عليها أغلب العلماء هي كالتالي. في عدم خاوٍ (حتى من الهندسة) تنشأ فقاعةٌ صغيرةٌ من الفراغ الذي يبدأ بالانتشار بسرعة كبيرة (نستطيع إثبات هذا رياضيًا). يبدأ هذا الفراغ، الذي ما زال صغيرًا، بإنتاج جسيمات افتراضيّة، ذبذبات كميّة، التّي عادةً ما تندثر بسرعة بعد نشوئها، إذ سرعان ما يلتقي جسمٌ بنقيضه. لكن في بداية الكون، تتوسع فقاعة الفراغ هذه بسرعة كبيرة بحيث يمنع هذا التوسع الجسيمات الأولية الافتراضية أن تلتقي بنقيضها وبدلًا من أن تندثر تبقى في الكون. وعندما يكبر الكون أكثر يكبر فضاؤه وينتج جسيمات أكثر، يحافظ عليها توسع الكون الحثيث. أيّ أن الكون يستغل مبدأ اللاحتميّة لينشئ جسيماته. لكن ألا يتناقض هذا مع قانون حفظ الطاقة؟ الإجابة هي لا، لأن الجاذبية بين هذه الأجسام تحمل طاقةً سالبةً بحيث أن الطاقة الكليّة للأجسام تبقى صفرًا.


هذا هو المقصود بكونٍ من عدم. إذ تزوّدنا نظرية الكم بالقوانين الأساسيّة التي تجعلنا نفهم كيف نشأ كوننا من لا شيء. وهو إدراك، إذا كان صحيحًا، مذهل. لكن هل حقًا هكذا ابتدأ الكون؟ وهل يفسّر هذا كل شيء؟ هل أصبحنا نعرف لماذا نشأ الكون ولماذا له الصفات التي نراها؟ هل حلّت الفيزياء كل معضلات الوجود والواقع؟ هل نحن الجيل الأوّل من البشر الذي استطاع أن يحلّ هذه الأسئلة العميقة التي شغلت البشرية منذ بداية وجودها؟ هذا ما أجيب عليه في القسم التالي.



شيء من لا شيء: هل تُفسّر فيزياء الكمّ وجود الكون؟


"لماذا هناك شيء بدلًا من لا شيء؟"، سأل الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز (Gottfried Leibniz) عام 1714. قد يكون هذا أعمق الأسئلة الفلسفيّة على الإطلاق فهو لا يسأل عن طبيعة الوجود وما يحتويه وما علاقة محتوياته الواحدة بالأخرى وإلى ما ذلك، بل هو يسأل عن أول الأسباب وعلّة الأشياء، كلّ الأشياء وليس فقط شيء ما. وهو سؤال شغل الفلاسفة والمفكرين على مر الأجيال. كما يبدو لأوّل وهلة، تحل لنا نظرية الانفجار الكبير ونظرية الكمّ هذه المعضلة، فهي تقول لنا من أين أتى الكون وكيف نشأ.


التّطور العلميّ الذّي شهدته البشرية في القرن الأخير منقطع النظير في التاريخ. فقد أصبحنا نفهم القوانين الأساسية التي تحكم الظواهر الطبيعية ونجحنا في استخلاص قصة كوننا من لحظاته الأولى حتى تطور الحياة بأشكالها المختلفة على الأرض، وأصبحنا نواجه المجهول مسلّحين بثقتنا بحكم العقل، مزوّدين بكمية هائلة من المعارف والقدرات التكنولوجية غير المسبوقة التي في حوزتنا. هذا مقابل الخوف والغيّبيات التي ميّزت تعامل أجدادنا مع العالم والطبيعة. قد يكون السؤال الذي سألناه هنا أوضح الأمثلة على مثل هذه الجرأة التي يزودنا بها العلم والمعرفة. فنحن نسأل من أين أتى الكون ونجيب على هذا بجوابٍ تفصيليّ علميّ يستند على قوانين الطبيعة الأساسية التي نعرفها.


لكن هل حقًا استطعنا بهذه الإجابة أن نفهم كلّ شيء؟ هل حقًا تفسّر فيزياء الكمّ ونظرية الانفجار الكبير وجود الكون؟


لأجيب على هذا السؤال المركزي سأقسم إجابتي، المختصرة، لعدة أجزاءٍ: لقد رأينا بأنّ فيزياء الكمّ، موضوعنا الأساسي هنا، هي أنجح النظريات العلميّة قط، فهي تخضع بنجاح لعددٍ لا يحصى من الامتحانات التجريبيّة العلميّة والتّطبيقات التّكنولوجية التّي تؤيد صحتها بدقةٍ غير مسبوقةٍ. لكن في نفس الوقت لا يوجد هناك اتفاقٌ واضحٌ على معنى نظرية الكم وما تقوله لنا عن طبيعة الواقع، كما رأينا أعلاه. هذا لا يعني بالطبع بأننا لن نستطيع أن نفهم في المستقبل معناها الحقيقي، هذه طبيعة الأبحاث العلميّة فقد تبقى مشكلة مستعصية لسنواتٍ وعقودٍ عديدةٍ، لكن يأتينا حلّها من حيث لا نتوقع ولا ندري. أضف على ذلك أننا نعرف أنّ نظرية الكمّ لا تصف كل ظواهر الكون لأنه ليس لها ما تقول إزاء قوة الجاذبية، التي تصفها النظريّة النسبيّة العامّة. فلربما عندما نفهم كيف نوحّد هاتين النظريتين، وهو أمرٌ ما زال مستعصيًا، نستطيع عندها فهم كنه المعنى العميق لنظرية الكم الجاذبية (quantum gravity)، كما تسمى. عندها أيضا من الممكن فهم كيف تكوّن الكون بشكل أوضح وطبيعي أكثر مما أوردناه هنا.


هناك جانبٌ آخر علينا مواجهته. لقد رأينا أنّ نظرية الكم تتناقض مع بعض الأمور المركزية في فهمنا البديهي للواقع، مثل إمكانية وجود جسم في مكانين مختلفين في نفس الوقت وغيرها من الظواهر المختلفة. لربما العيب الأساسي هو في البديهة التي نحملها بداخلنا وأدواتها. لقد نمت سليقتنا خلال تطورنا ككائناتٍ حيةٍ عبر مليارات السنين، و "زرعتها" بنا عملية الانتقاء الطبيعي. فنحن نفكر بديهيًا بواسطة منطق معين (مثل قوانين الحساب) وهندسةٍ معينةٍ (هندسة أقليدس المستوية) وقوانين فيزياءٍ معينةٍ (قوانين نيوتن) نتيجة تطوّرنا على الكرة الأرضيّة وفي بيئتها الخاصّة. هذه القوانين والمعارف البديهية "المزروعة" بنا، أسماها عمانوئيل كانط بالافتراضات التحليليّة والاصطناعية المسبقة (analytic and synthetic a priori proposition). لكن هذه المعارف البديهيّة والتي هي تقريب للواقع الفيزيائي السائد على الكرة الأرضية هي تجريدٌ (abstraction) مبسط تطوّر في داخلنا بواسطة عمليّة الانتقاء الداروينية، مثل باقي المخلوقات، حتى يساعدنا في حياتنا وتعاملنا مع البيئة المحيطة. نحن نعرف الآن أن قوانين نيوتن هي مجرد تقريب لواقعٍ أعمق تصفه نظرية الكم والنظرية النسبيّة، كما نعرف بأن هندسة إقليدس هي مجرد تقريب لهندسة الكون اللامستوية، وحتى قوانين المنطق التي نتبعها تتصرف بشكلٍ مختلفٍ على مستوى نظرية الكم. أيّ أنّ العيب في البديهة التي نحملها وليس في قوانين نظرية الكم التي علينا أن نغير سليقتنا حتى نفهمها.


لكن حتى إذا قبلنا أن الكون هو تذبذبٌ كمّي، هل يعني هذا أننا فهمنا كل شيء؟ بالطبع لا، فهذه الإجابة تفتح أسئلة أخرى! فعلى سبيل المثال، قد افترضنا صحة قوانين الطبيعة التي نعرفها لكي نفسر نشأة الكون ووجوده، لكن من أين أتت هذه القوانين؟ لماذا هذا هو شكلها؟ وإجمالًا، لماذا تحكم الكون قوانين؟ هذه الأسئلة نحن بعيدون جدا عن الإجابة عليها، وحتى إذا أجبنا عليها، سوف توفر هذه الإجابات أسئلةً أعمق عن أصلها وسببها. أيّ أننا لن نستطيع أبدًا الإجابة على ماهية السبب الأولّي، فكل مرة نصل بها إلى إجابة علمية حوله، تفتح هذه الإجابة البحث من جديد حول السبب الأعمق! أيّ أنّ الكون نتج كشيءٍ من لا شيء بمفهومٍ معيّن ولكنه بمفهومٍ آخر لا يمكن أن ينشأ من لا شيء.


قد يقول البعض، طبعًا هذا ما نتوقعه. إنّ نشوء الكون والطبيعة هما مساحة فعل الخالق والدين. لهؤلاء أقول مهلًا! قوانين الطبيعة كما نعرفها تحطم قصّص الأديان، كل الأديان، على محك الواقع. إذ لا توجد للأديان أي علاقة بطبيعة الكون كما نرصده ونفهمه علميًا. وماذا عن الله، كمفهومٍ مجرد بعيدٍ عن تفاصيل الأديان، ألا يمكن أن يكون هو السبب الأول للأشياء؟ بالطبع، قد يكون هذا ما قصده أرسطو وتوما الأكويني عندما تحدثا عن "المحرك الأولي" (prime mover). ولكن يخضع هذا التفسير لنفس التساؤل عن الأصل والسبب. أيّ التساؤل عن أصل ودافع وجود "السبب الأولي" في قوانين الطبيعة هو نفس التساؤل الذي يخضع له وجود "محرك أوّلي" خارج الطبيعة (إلهي). هذا على الرغم من أنّ أغلب الذين يقبلون بوجود "محرك أولي" خارج الطبيعة يتوقفون عند هذا ولا يسألون عن سبب وجود هذا "المحرك".


هناك فرقٌ أساسي بين قبول سبب أولي خارج الطبيعة و البحث عن سببٍ أولي طبيعي. إذ أن قبول الأول يعني التّوقف عن التساؤل، فلا يوجد سبب لأن نبحث أكثر. أمّا قبول خيار البحث عن سببٍ أولي طبيعي يعني، كما ذكرنا، عملية بحث لا نهاية لها لسبر غور الواقع الموضوعي، وعلى الرغم أننا نعرف أننا لن نصل إلى إجابةٍ نهائيةٍ، إلا أنه تنكشف أمامنا عند كل جولة شريحة أعمق من الواقع تكشف لنا معضلات جديدة مثيرة وخلابة. أي أنه كلّما حاولنا حل أحجيات الطبيعة وفك سحرها، تعود علينا هذه الحلول بأحجيات أعمق لتلقي علينا تعويذة سحر أكبر وأجمل. فمن توقف عن البحث عن الحقيقة، فقد القدرة عن الافتتان بجمالها.

وماذا لو "سرق" الغرب أسس ثورته العلمية من علماء العرب؟

3/1/2017

 
"لكن ما الضّرورة؟ ما الذي دفع كوبرنيكوس للتفكير بذلك؟" جال هذا السؤال في خاطري خلال الاستماع لمحاضرة أحد مؤرخي العلوم الأمريكيين عن نموذج كوبرنيكوس وبعض تفاصيله، قبل حوالي السنتين. كان نيكولاس كوبرنيكوس، البولندي الأصل، قد اقترح نموذجا في القرن السادس عشر يقضي بأن الشمس لا الأرض هي المركز الذي تدور حوله الكواكب السيارة. بعد نهاية المحاضرة سألت المحاضر سؤالي، فتلقيت إجابةً طويلةً غير مقنعةٍ، تتلخص بأن كوبرنيكوس فكر في هذا لوحده. بالطبع استمعت لإجابته بأدب ولكن أيضا بشكّ واضح.

بعد أسبوع أو اثنين من هذه المحاضرة، قرأت لدهشتي ولصدمتي تعليقا لأحد الأصدقاء، وصف كوبرنيكوس بأنه لصّ وبأنه سرق نظريته من العرب! كيف يكون هذا ممكنًا؟ كيف لمكتشف إحدى أهم الاكتشافات العلمية أن يسرق فكرته الكبيرة؟ ومِن من؟

ما أزعجني هو أني لم أفكر في فحص العلاقة بين الثورة الكوبرنيكية وعلماء الفلك العرب من قبل. فكيف أقبل رواية علميةً مبهمة حول تاريخ هذه الفترة الهامة وأنا الذي أشغف بفلسفة العلم وتاريخه لحد الولع. إذن، أهدف في مقالي هذا البحث في مسألتين، الأولى هي أن أوضح الحقيقة الكامنة في ثنايا هاتين الروايتين المتناقضتين، هل هي في صف رواية المؤرخ الغربي أم صفّ الصديق العربي؟ أو ربما كلاهما، كما يقول مثلنا الشعبي، "يدير النار إلى قُرصِه"! المسألة الثّانية هي أن أسأل: وماذا إذا كانت الرواية التي تقول بأن كوبرنيكوس سرق فكرته هي الصحيحة؟ ماذا سيغير هذا؟

في هذه المقالة سوف أتحدث عن مفكرين من أبناء الحضارة العربية الاسلامية التي سادت في الشرق الأوسط، شمال أفريقيا والأندلس وأشير إليهم "بالعلماء العرب". من الواضح بأن هذا مصطلح ضيق إذا فهمناه من منطلق قومي، فهناك العديد من الفرس في هذه القصة، ولكن في المقابل مصطلح "العلماء المسلمين" هو أوسع مما يجب لأنه يشمل كل الثقافات التي تدين بالدين الإسلامي. إذن، بالإضافة إلى "الحضارة العربية الإسلامية"، استخدام مصطلح "العلماء العرب" هنا هو للإشارة إلى اللغة التي استعملها هؤلاء للتعبير عن أفكارهم ونشرها، والثقافة التي من خلالها تفعّلوا. وهو استعمال لا أقصد به أي إيحاء بالقومية، التي هي، بكل الأحوال، مفهوم حديث.

الثورة الكوبرنيكية

في البداية سأقف قليلاً على أهمية هذه الحقبة التاريخية. أتى كوبرنيكوس بعد فترة طويلة من تبنّي الكنيسة الكاثوليكية فلسفة أرسطو وصهرها في لب عقيدتها المسيحية، لتصبح كلّ ديني وفلسفي متجانس. نتيجة لهذا تحول نموذج بطليموس، الذي انبثق عن المنظومة الكونية الأرسطوطالية، من نموذجٍ يصف الطبيعة إلى نموذج يلبي مطالب نصوص دينية ويعكس نظام سرمدي إلهي أصبح تغييره أشبه بالمستحيل، لأن تحديه بات يعني تحدي الله بذاته. خاصة وأن في حينه كانت حركة التصحيح اللوثرية وتداعياتها في أوجها. من هذا السياق، علينا رؤية الصِّعاب التي واجهت كوبرنيكوس واتباعه.

يسمي مؤرخو العلوم مرحلة الانتقال من نموذج بطليموس، الذي وضع الأرض في مركز الأجرام السماوية، إلى نموذج كوبرنيكوس، الذي يضع الشمس في المركز، باسم الثورة الكوبرنيكية. ابتدأت هذه الثورة مع نشر كوبرنيكوس لكتابه "حول دوران الأجرام السماوية" في عام 1543، مروراً بقوانين العالم الألماني يوهانس كبلر الثلاثة حول حركة الكواكب السيارة ، واكتشاف جاليليو لأربعة من أقمار المشتري التي أثبتت بأن الأرض هي ليست مركز حركة كل أجرام السماء، ونهايةً برائعة نيوتن "الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية" في عام 1687. يجدر التنويه بأن هناك الكثير من مؤرخي العلوم الحديثين ممن يتحدون مفهوم "الثورة" في هذا السياق، ولكن لحاجة هذا المقال سوف استعمل هذا المصطلح للتعبير عن ظاهرة التغير الفكري العميق الذي حدث في تلك الفترة بغض النظر عمّا إذا كان مصطلح "ثورة" يصف طبيعتها الحقيقية!

إذن، فهذه الثورة ليست من الثورات التي تحدث عادة في السياسة والتي يتوخى مؤيدوها تغيير العالم في لمحة من البصر. مثل هذه الثورات هي مجرد سراب وأوهام، لأن التاريخ والمجتمعات لا تتغير برمشة عين. لا تحدث الثورات الحقيقية بين عشية وضحاها، بل هي تغيرات تدريجية متراكمة تعكس عمليات وتفاعلات عميقة، متشعبة، متشابكة وطويلة الأمد. وهي تتطلب صبر وإصرار وجهد كبير من أعداد كبيرة من الناس والمؤسسات. الثورة الكوبرنيكية هي أكبر برهان على ذلك. فهي ملحمة فكرية لها أبطال وأوغاد وانتصارات وإخفاقات. دارت أحداثها في بطون الكتب ومحافل العلماء وقصور البابوات. امتدت حيثياتها على مدى قرن ونصف، رأى العالَم خلالها ظهور النماذج الأولية للعلماء المعاصرين الذين يصبون لفهم الطبيعة وظواهرها كنشاط فكري وتجريبي منعزل عن الدين أو الأعراف السائدة في المجتمع، بل يتبعون الدلائل الرصدية والتجريبية أينما تقودهم. كما وراح ضحيتها الكثيرين من العمالقة مثل جاليليو الذي سجن وجيوردانو برونو الذي أحرق. ولكن أهم نتائجها كانت تغيير مفهومنا للكون والفلك والطبيعة إجمالا، وانتصار الطريقة العلمية ومبناها التجريبي والمنطقي على الغيبيات التي تتجاهل بيِّنات الرصد والتجربة.

من الطبيعي أن هذه الثورة قد أدت إلى تحول تام في مجال فيزياء الفلك، ولكن في الحقيقة كانت نتائجها أبعد من ذلك بكثير. فقد أدت أيضًا إلى تحولات جذرية في جميع مجالات الفيزياء والعلوم عامةَ والرياضيات والفلسفة وحقل الدراسات الدينية. بل أكثر من ذلك، أدّت تداعياتها إلى انقلاب تام في مفهومنا لتعريف ما هو العلم، وأدت إلى ترسيخ المنهج العلمي بحيث أصبح المنهج الأساسي في دراسة الطبيعة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الثورة الكوبرنيكية النموذج الذي يحتذى والمعيار الواضح لكل دراسة تصبو إلى أن تكون "علمية" في كل مجالات العلوم الطبيعية والاجتماعية. من أشهر الأمثلة لذلك هي الدراسة التي قام بها فيلسوف ومؤرخ العلوم الأمريكي توماس كوون (Thomas Kuhn)، مؤلف كتاب "الثورة الكوبرنيكية". فقد اعتبرها كوون المثال الساطع للثورات العلمية التي تدفع بعجلة التقدم العلمي إلى الأمام واستخدمها لتكوين نظريته الشهيرة حول فلسفة العلوم، التي عرضها في كتابة "مبنى الثورات العلمية".

لماذا تمخضت مشكلة جانبية تتعلق بحركة الأجرام السماوية، لا تهم إلّا قليل من الناس، عن هذا الانقلاب الهائل في مفاهيم البشر؟ هذا السؤال، كان وما زال محور عدد كبير من الأبحاث في تاريخ العلوم وفلسفتها وفي حقل دراسات التاريخ الثقافي والحضاري. لكن الأمر الذي أود التطرق إليه بداية، هو جذور نموذج كوبرنيكوس. إذ تعطي أغلب المصادر الغربية الانطباع بأن بين بطليموس، الذي وضع نموذجه في عام 148 ميلادية، وكوبرنيكوس لم يأت أحد بشيء جديد، اللَّهُمَّ إلاَّ بعض من المفكرين الغربيين الذين سبقوه. أي أن كوبرنيكوس ولّد نظريته من إصبع جوبيتر. فكما يقول توماس كوون في كتابه عن الثورة الكوبرنيكية: "لهذا، من نقطة رؤيتنا الحالية والمحدودة، أهمية الحضارة الإسلامية تكمن في الأساس بأنها حافظت ونشرت سجلات الحضارة الإغريقية العلمية للبحّاثة الأوروبيين الذين أتوا لاحقا." أي أن دور الحضارة العربية الإسلامية يتلخص بترجمة ونقل المعارف الإغريقية من اليونان القديم إلى الغرب، لا أكثر. فهي لم تجدد شيئاً يستحق الذكر لتطوير المعارف الإنسانية والمضي بها قدما! هذه إجمالا الصورة الاستشراقية في الغرب عن مساهمة العرب. وهي صورة مشوّهة ما زال معظمهم يرددها حتى اليوم، على الرغم من الأدلة الدامغة التي تقضي عكس ذلك! سأعود لاحقا لتعداد إسهامات الحضارة العربية في هذه المشكلة بالذات والتي لولاها لما توصل كوبرنيكوس لنموذجه.

كون أرسطو ونموذج بطليموس

لفحص العلاقة بين ما قدمه العلماء العرب و نظرية كوبرنيكوس، علينا أن نشرح بإيجاز نموذج بطليموس. يُعرف الكتاب الذي عرض به بطليموس نموذجية باسم "المجسطي" وهو العنوان الذي أعطاه إياه مترجمه إلى العربية (هناك عدة ترجمات للكتاب)، وهو ما زال يعرف به حتى اليوم في الغرب، Almagest. يلخص كتاب بطليموس خلاصة المعارف البابلية والإغريقية في الموضوع ويبني نموذجه على أساسها.


تجلس المنظومة الكونية الأرسطوطالية في قلب النموذج البطلمي، أي علم الكون بحسب أرسطو. وهي المنظومة المركزية لفهم الطبيعة في العالم القديم. عرض أرسطو نموذجه الكوني في كتابه "في السموات" (On The Heavens)، وتوسع في بعض جوانبه لاحقا في كتابه "ما وراء الطبيعة" (Metaphysics). تقضي المنظومة الكونية الأرسطوطالية بأن مركز الأرض هو نفسه مركز الكون وأن الأجرام السماوية المعروفة في حينه تدور بحركة دائرية متكاملة على سطح كرات معينة مصنوعة من "عنصر الأثير". وهو العنصر الخامس عند أرسطو (بالإضافة للماء والتراب والهواء والنار)، وهو موجود فقط في السماء ويتحرك بحركة دائرية مُحكمة (بعكس العناصر الأخرى التي تتحرك بخط مستقيم إلى أعلى أو أسفل). وآخر هذه الكرات، وهي الكرة التي تقع عليها النجوم البعيدة، تشكل سقف العالم ونهاية حدوده.

اعتمادا على هذه المنظومة، اقترح بطليموس نموذجا رياضيا مفصلا حول حركة سبع أجرام سماوية، وهي القمر والشمس والكواكب السيارة الخمسة الّتي كانت معروفة في حينه: عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري وزحل. حركة النجوم البعيدة عادة تهمل لبساطة مدارها حول الأرض بحركة دائرية يومية من الشرق الى الغرب. أصر بطليموس في نموذجه على اعتماد الدائرة كمسار الأجرام السماوية بحسب ما نصه كَوْن أرسطوطاليس، لكنه واجه مشكلة كبيرة، لأن حركة دائرية بسيطة حول الأرض لا تفسر مثلا، فصول السنة المختلفة، أو تغيّر حجم القمر الذي يظهر أحيانا كبيرا وأحيانا صغيرا، أو المسار الغريب الذي تتبعه الكواكب السيارة احيانا بحيث يظهر أن مسارها على صفحة السماء يتوقف ويعود القهقرى بحركة تراجعية (retrograde motion)، ثم يتوقف من جديد ليكمل دورته (كما تبين حركة المريخ المبينة بالصورة).
في ما يلي، سأعطي بإيجاز العناصر الأساسية لنموذج بطليموس، ولكن قبل ذلك أود أن أنوه بملاحظة عابرة بأن حركة الأجرام السماوية السبع هي أصل مفهوم "السموات السبع" الذي يظهر في حضارات مابين النهرين القديمة والحضارة الهندوسية والأدْيان التوحيدية الثلاثة.

يبين الرسم المرفق العناصر المختلفة في نموذج العنصر الأول هو إزاحة الأرض عن مركز الدائرة، بهذا استطاع مثلا أن يفسر تغير الفصول نتيجة لحركة الشمس. لكن هذا وحده لا يكفي لتفسير حركة الأجرام الستة الباقية حول مركز الأرض، لهذا أتى بالعنصر الثاني، وهو أن حركة الجرم السماوي تحددها حركة دائرتين، يدور مركز الصغرى منها، المسماة فلك التدوير (epicycle)، حول الكبرى، المسماة بالناقل (different). استطاع بطليموس تفسير ظاهرة الحركة التراجعية التي تشهدها الكواكب السيارة عن طريق ملائمة حركة هاتين الدائرتين.

لكن حتى هذا لم يكن كافيا للتنبؤ بحركة الكواكب والشمس والقمر بالدقة المطلوبة. لهذا، أضاف عنصرا جديدا ومعقدا قليلا يحتاج إلى شرح. تخيل أنك تجلس في مركز معين وتراقب جسما يدور حولك بحركة دائرية ثابتة ومنتظمة، سترى حينها بوضوح بأن هذا الجسم يقطع زوايا متساوية على محيط الدائرة التي يرسمها في أزمنة متساوية (الدائرة اليسارية من الرسم السفلي). العنصر الذي أضافه بطليموس مختلف، وهو من أكثر ما أثار حفيظة منتقديه، فهو وضع نقطة خيالية مقابل الأرض تبعد عن المركز بقدر مساو لبعدها عنه، سماها معدل المسار (Equant، أنظر الرسم العلوي). وهي النقطة التي منها يظهر مركز الفلك أن التدوير يقطع زوايا متساوية في أزمنة متساوية (الدائرة اليمينية من الرسم السفلي). هذه الإضافة المهمة وغير المفهومة تصف شيئا غريبا؛ يدور الجرم السماوي حول المركز بحركة دائرية، لكنها تظهر بأنها حركة منتظمة (ذات سرعة دوران ثابتة) من نقطة أخرى، وهي نقطة معدل المسار، وفي الوقت ذاته لا يوجد شيء في هذه نقطة! علينا أن ننوه هنا بأننا نفهم اليوم مصدر نقطة معدل المسار الخيالية على أنها نتيجة المركز الثاني للقطع الناقص (المسار البيضوي) الذي تسير به الكواكب السيارة حول الشمس.

من الواضح أن نموذج بطليوس معقد ويحتاج إلى العديد من الكرات ودوائر الناقل وأفلاك التدوير ومحاور دورانها. ولأول وهلة يظهر بوضوح التناقض بينه وبين كون أرسطوطاليس، بالذات في مفهوم معدل المسار وفلك التدوير وإزاحة الأرض عن مركز الدائرة. هذا التعقيد الواضح حذى فيلسوفنا الكبير إبن رشد في كتابه "تفسير ما بعد الطبيعة" بأن يقول: "فإن علم الهيئة في وقتنا هذا ليس منه شيء موجود، وإنما الهيئة الموجودة في وقتنا هذه هي هيئة موافقة للحسبان لا للوجود"، وعلم الهيئة هو ما يقابل في يومنا هذا علم الفلك النظري. لكن وعلى الرغم من ذلك، استمر نموذج بطليموس بكونه النموذج الأساسي لفهمنا للأجرام السماوية وحركتها، منذ اقترحه بطليموس في القرن الثاني للميلاد، على مدى أكثر من ألف عام. هذا لأنه وبالرغم من مشاكله البادية للعيان، استطاع أن يتابع مدارات هذه الأجرام وأن يتنبأ بمواقعها بدقة كبيرة نسبيا.

دور الحضارة العربية الإسلامية

في الخمسينات من القرن الماضي كان عالم الرياضيات الأمريكي، الذي كان يعمل في الجامعة الأمريكية في بيروت، (إدوارد كنيدي (Edward Kennedy يتصفح كتاب "نهاية السؤال في تصحيح الأصول" لعالم الفلك العربي ابن الشاطر‑ الذي عاش في القرن الرابع عشر وكان يحمل لقب موقِّت المسجد الأموي في دمشق. لاحظ كنيدي لدهشته، بأن كتاب ابن الشاطر يحوي عددا من النماذج الفلكية الّتي كان يُعتقد بأنها ظهرت لأول مرة في كتاب كوبرنيكوس. أي أن العلماء العرب عرفوا تلك النماذج قبل الغرب بأكثر من قرنين. أدى هذا الاكتشاف إلى سلسلة اكتشافات أخرى دفعت مؤرخي العلوم إلى إعادة النظر بالعلاقة بين الفلكيين العرب من جهة، وبين كوبرنيكوس وأترابه من فلكيي عصر النهضة الأوروبي من جهة أخرى. كما ودفعتهم إلى دراسة البدائل المثيرة للإعجاب لنموذج بطليموس، التي ابتكرها المفكرون العرب والتي كانت مبنية على تحديثات رياضية خلّاقة أثّرت بشكل جلي على انطلاق الثورة العلمية الغربية. ولكن قبل أن نتوسع بما فعله ابن الشاطر وغيره، دعونا نعود لكيفية تناول المفكرين العرب لنظرية بطليموس.

على الرغم من النجاح الكبير لنظرية بطليموس، ابتدأ نقد العرب لها منذ القرن العاشر ولكن الكاتب الأول الذي وضع نقدا منهجيا لنظرية بطليموس هو الفيزيائي الكبير ابن الهيثم في كتابه "الشكوك على بطليموس" الذي صدر في القرن الحادي عشر. لاحقا في القرن الثاني عشر، أثارت أعمال عدد من علماء الفلك في الأندلس، كالبطروجي وابن رشد، انتقادات إضافية على بطليموس (هؤلاء ذكرهم كوبرنيكوس في كتاباته). ولكن الحركة الفكرية الأساسية التي عمليا دمرت النموذج البطليمي، نشأت في الشرق وكان مركزها مرصد المراغة (في إيران) الذي أسسه نصير الدين الطوسي وأخرج العمالقة كالطوسي نفسه، ومحيي الدين الأوردي وقطب الدين الشيرازي وعلاء الدين ابن الشاطر، الذي ذكرناه (الذي هو ربما أعظمهم)، وغيرهم كثيرين.

الانتقادات التي وجهها علماء الحضارة العربية الإسلامية لنموذج بطليموس كثيرة ومتنوعة، منها الفلسفي ومنها النظري ومنها الرصدي. مثال على ما نقصده بالنقد الفلسفي، هو التناقض بين كون أرسطو ونموذج بطليموس، بالذات في ما يتعلق بإزاحة مركز الأرض عن مركز الدوران والنقطة الوهمية المسماة بمعدل المسار. مثال على النقد النظري، هو استعمال بطليموس أدوات ونماذج رياضية مختلفة لتفسير حركة كل من الأفلاك، أي أن كل جسم منها تقريبا تطَلّب وصف خاص به، مختلف تماما عن الآخر. ومثال على النقد الرصدي، هو تنبؤ نموذج بطليموس بتغيير حجم القمر شهريا بحوالي الضعف، وهو تغيير لا نراه في الواقع. في الحقيقة، عدد المشاكل أكبر بكثير وتعدادها 16 مشكلة أساسية. حل هذه المشاكل كان الدافع الأساسي للنماذج البديلة التي اقترحها علماء العرب.

ما ميز حركة علماء المراغة، والتي أحيانا يطلق عليها اسم ثورة المراغة، هو اعتمادها وسائل رياضية متطورة للغاية (مثل مزدوجة الطوسي ونظرية الأوردي)، واستعمالها من أجل التخلص مما اعتقدوا بأنها مشاكل أساسية في نموذج بطليموس. أي أن العلاقة الوثيقة التي نعرفها اليوم بين النظريات العلمية والرياضيات قفزت قفزة جدّية جدا في أعمالهم ولربما كان هذا أهم تأثير لهم على تطور العلوم بشكل عام. ومن المذهل بأن أعمال هؤلاء العمالقة ظهرت في كتاب كوبرنيكوس بشكل جلي ولكن من غير أن ينوه بدورهم ولا بأسمائهم (سنعود لهذا لاحقا). كما وامتدت هذه الحركة من القرن الثالث عشر وحتى القرن السادس عشر. بل إن هناك بعض الأعمال لعلماء هذه الحركة التي ما زالت قيد الاكتشاف والتحري.

سأعطي هنا مثالا صغيرا لمثل هذه التحديثات الرياضية واسقاطاتها على نموذج بطليموس. المثال هو نظرية مزدوجة الطوسي: تنص هذه النظرية على أنه إذا كان هناك دائرتين متداخلتين، قطر الصغرى منها يعادل نصف قطر الكبرى، وبحيث تدور الصغرى داخل محيط الكبرى، عندها تتحرك كل نقطة على محيط الدائرة الصغرى بخط مستقيم، كما يظهر في الشكل: الصليب الأخضر الموجود على نقطة معينة على محيط الدائرة الصغرى يتبع الخط الأسود المتقطّع عندما تدور الدائرة كما تبينه الحالات الثلاث.

ولكن ما علاقة هذا بحركة أفلاك السماء؟ العلاقة هي أنّنا استطعنا من خلال حركة دائرية بأن ننتج حركة خطية كحركة النقطة الخضراء بالشكل. وهذا يشبه الحركة التراجعية التي تبديها الكواكب السيارة. بالإضافة إلى ذلك، من الممكن استعمال مثل هذه النظرية للتخلص من معدل المسار، تلك النقطة الغريبة التي لا تحوي شيئًا والتي يدور من حولها الكوكب السيار بمعدل ثابت.

في الحقيقة، اسقاطات هذه النظرية أبعد بكثير، فهي وبكل بساطة تحطم كون أرسطوطاليس. ألم يدّعي أرسطو بأن الأثير في السماء يتحرك بحركة دائرية متكاملة، وتتحرك العناصر الأربع الأخرى على الأرض إلى أعلى أو أسفل بحركة خطية! ترينا إزدواجية الطوسي أنه من خلال حركة دائرية محضة نستطيع أن ننتج حركة خطية. أي أن الفصل بين أنواع الحركة للعناصر المختلفة، مستقيمة ودائرية، هو ليس حقيقي. لكن لسبب من الأسباب لم يتناول الطوسي هذا الموضوع! لماذا؟ لا أعرف ولكنها حقيقة تجدر الإشارة إليها. سنعود الآن لقصتنا.

نحن نعلم الآن بأن كوبرنيكوس استخدم مزدوجة الطوسي بنفس الطريقة التي استعملها الطوسي والأوردي وابن الشاطر. بل أكثر من ذلك، فقد نوه المؤرخ الألماني ويلي هارتنر (Willy Hartner) بأن كوبرنيكوس قد استعمل في كتابه "حول دوران الأجرام السماوية" رسما مماثلا جداً لرسم موجود في كتاب نصير الدين الطوسي "تذكرة في علم الهيئة". تظهر الصورة المرفقة مقارنة بين الرسم في كتاب كوبرنيكوس "حول دوران الأجرام السماوية" (على اليمين) والرسم الذي يظهر في كتاب نصير الدين الطوسي "تذكرة في علم الهيئة" (على اليسار). ما نوه إليه هارتنر هو أن تسمية النقاط في الرسمتين مطابقة تماما A، H، D، B على المستقيم وG على محيط الدائرة الكبرى عند كوبرنيكوس وألف، هاء، دال، باء وجيم عند الطوسي ولنفس النقاط. من الواضح أن رسم كوبرنيكوس يحوي دائرة ثالثة لم تظهر عند الطوسي، ولكن هذا التشابه يدل على أن كوبرنيكوس كان على علم بأعمال الطوسي أو، وهذا الأرجح، بأن رسمة الطوسي كانت رسمة معيارية معروفة جدا وصلت لكوبرنيكوس عبر زملائه ومعلميه من غير أن يعرف مصدرها الأصلي. بأية حال فهذا يؤكد على أن أعمال فلكيي مرصد المراغة كانت مألوفة لعلماء ومفكري القرون الوسطى في أوروبا.

سأنهي الحديث عن هذه العلاقة بين كوبرنيكوس والعرب بالعودة لابن الشاطر، وهو كما ذكرت العبقري الكبير في هذه المجموعة. فالادعاء الذي يدّعيه بعض مؤرخي العلوم هو أن الطريق إلى نموذج كوبرنيكوس تمر عبر ابن الشاطر. التحديث الأساسي في عمل ابن الشاطر هو أنه أعاد الأرض إلى مركز الكون وتخلص من أدوات الإزاحة ومعدل المسار اللتين أضافهما بطليموس وأقلقا الكثير من علماء الفلك. فقد ابتكر نموذجا رياضيا متقدما، استخدم فيه أدوات رياضية متطورة جدا واعتبارات نظرية محكمة، لكي يصف مدارات الأفلاك السماوية بواسطة حركات دائرية مركزها الأرض، تماماً كما أراد أرسطو. لهذا فقد ابتكر نموذجا رياضيا يعتمد فقط على أفلاك التدوير (التي ذكرت سابقا). وفي الحقيقة، إن نموذج ابن الشاطر يكافئ نموذج كوبرنيكوس تماما من الناحية الرياضية، كما بيّن إدوارد كنيدي وطلابه في سنوات الخمسين والستين. ونستطيع بسهولة أن نرى، كما يقترح مؤرخ العلوم جميل راغب، أن وجود نموذج مركزه الأرض بالفعل، كنموذج ابن الشاطر، جعل القفزة المبدئية الكبيرة التي صنعها كوبرنيكوس أسهل. أي أن قفزة وضع الشمس في المركز، على الرغم من كبرها، هي بالتأكيد أبسط بكثير من القفزة التي كانت على كوبرنيكوس مواجهتها لو لم يكن يعرف نموذج ابن الشاطر. على الرغم من هذا، لا يوجد اعتراف واضح في كتابه أو في أعمال الذين أتوا من بعده لدور عمالقة الحضارة العربية الإسلامية في تطوير أفكارهم!

علي في نهاية هذا القسم من المقال أن أواجه السؤال: ماذا كانت مساهمة كوبرنيكوس المبدئية؟ وهل "سرق" كوبرنيكوس كل نموُذَجه من العرب من غير أن يعطيهم حقهم؟ الإجابة على الشق الأول من هذا السؤال واضحةٌ، فحتى الآن لا نعرف أحد من قبله وضع نموذج رياضي متكامل وكمّي، بحيث أن الشمس في مركز الكون − ادّعى الكثيرون بأن الشمس هي المركز (مثل اليوناني أرسطرخس الساموسي)، ولكنهم لم يأتوا بنموذج متكامل يطابق المعطيات الموضوعية، ومن الممكن استعماله للتنبؤ بحركة الأجرام السماوية. بالرغم من الكثير من الادعاءات التي تظهر أحيانا، لا يوجد حتى الآن مصدر موثوق وواضح يدعم الادعاء بأن ابن الشاطر أيضا وضع الشمس في المركز! هذا لا يعني أنه ربما كان هناك بعض الكتابات التي كتبها ابن الشاطر والتي وصلت كوبرنيكوس ولكنها لم تصلنا، بحيث وضع فيها نموذجا مركزه الشمس. في الحقيقة أنا أميل للشك بذلك، لأن جل أعمال ابن الشاطر كانت تهدف إلى توفيق النموذج الفلكي مع كون أرسطو، وخطوة نقل مركز الكون من الأرض إلى الشمس هي انتهاك سافر لكَوْن أرسطو وفهمه للطبيعة.

لماذا تجاهلونا؟

إذن، لماذا لم يعطِ كوبرنيكوس علماء العرب حقهم؟ هذه في الحقيقة نقطة أقل أهمية نستطيع تفسيرها بعدة حجج. أولا، معايير الإقتباس الشديدة التي نتبعها اليوم لم تكن موجودة في عهد كوبرنيكوس، فقلما اقتبس المفكرون في عصره ممن سبقوهم. وحتى بحسب معايير الإقتباس الشديدة في عصرنا، فكثير من الأحيان لا يقتبس العلماء المصدر الأولي لفكرة ما، بل يقتبسون مرجع آخر يشير إلى المصادر الأولية، ومع الوقت ينسون المصدر الأول. وفي الحقيقة يكرر كوبرنيكوس في كتابه أنه يحاول حل المشاكل التي أشار إليها "السابقون" من غير أن يفصح من هم هؤلاء السابقين. إضافة إلى ذلك، نحن نعلم أن كوبرنيكوس لم يكن يعرف العربية، فمن الأرجح أنه تكشّف أعمال علماء المراغة بشكل غير مباشر. ومن الممكن أن أعمالهم كانت أساس المعرفة الموجودة لعلم الفلك في الأوساط التي تعلم بها في جامعة بادوفا الإيطالية، حيث نعرف بأن المراجع العربية كانت موجودة. أي أن كتابات علماء المراغة كانت جزءا من المعرفة العامة عن الموضوع من غير معرفة أسماء هؤلاء العلماء العينية (بالرغم أنه ذكر بشكل واضح أسماء عديدة أخرى لعلماء عرب في كتابه).

من الواضح أن هناك أسباب أعمق لهذا التجاهل، ليس فقط من قبل كوبرنيكوس (الذي قد نغفر له)، بل من قبل أجيال أخرى كثيرة من بعده من المفكرين الغربيين. لماذا هذا التجاهل؟ أولاً، كل حضارة تميل إلى أن تقتبس من مبدعيها وتعظّم دور نفسها وتعزي لمفكّريها حصة الأسد من الرصيد وتخصصهم بالمفخرة والاعتزاز. فكم بالحري إذا كانت هذه الحضارة في طريقها إلى الصعود، وثقتها بنفسها وبنتاجها الفكري والعلمي والتكنولوجي في أوجها، بالذات في أولى فترات ارتقائها المجدد بعد سبات العصور الوسطى العميق. بالفعل، ففي القرن الخامس عشر والسادس عشر ظهرت في أوروبا حركة النهضة الإنسانية (Renaissance Humanism) − التي تختلف عن حركة الإنسانية الحديثة − وكان لها تأثير كبير. كان لهذه الحركة أوجه كثيرة إيجابية، ولكنها قررت أنها سوف تروي قصة حضارتها استنادا فقط على "جذورها" الإغريقية والرومانية وتتجاهل بشكل متعمد تقريبا أي مساهمة أخرى.

زد على ذلك بأن الحضارة العربية الإسلامية كانت، وبمفهوم معين ما زالت، هي الوحيدة التي تشعر الحضارة الغربية إزاءها بالمنافسة الحقيقية، (لربما نتيجة لقربها الجوهري، الضمني والجغرافي). كما أن الحضارة العربية الإسلامية تشكل تحدّيا واضحا لقصة الغرب التي تقول بأن حضارته ابتدأت من "المعجزة الإغريقية" التي لم يكن قبلها ولا بعدها شيء طوال 15 قرن من الزمن، اللهم باستثناء تطوير طفيف للرومان لها، لتعاود نشاطها وانتاجها في عصر النهضة في الغرب بقدرة قادر ولم يكن دور العرب سوى نقل معارف الإغريق إلى أوروبا، لا أكثر ولا أقل. بالطبع، لا يمكن أن نتجاهل الدور الذي لعبته هذه القصة الحضارية المفتعلة في مشروع الاستعمار الغربي لاحقا. فهي التي سمحت لهم بأن يعتبروا أنفسهم وحضارتهم "أرقى" من الحضارات والشعوب الأخرى، مما سوغ لهم "حق" استعمارها والسيطرة عليها. أي أن هذا التجاهل عبر التاريخ هو جزء من واقع أكبر وأعمق من مجرد اقتباس أعمال في علم الفلك أو الطب أو الفلسفة، أو غيرها.

ماذا يغير هذا؟

إذن، الأساس الفلسفي والرياضي والنظري الذي بناه علماء حضارتنا كان الأساس المتين الذي ارتكزت عليه أوروبا لتقوم بنهضتها، كما هو جلي في أعمال كوبرنيكوس وأترابه (مساهمة مشابهة تظهر جليًا أيضًا في العلوم الطبية)، وهو الذي مهد الطريق للثورة العلمية الغربية. فعندما نقرأ كوبرنيكوس، نرى بأن هاجسه الأساسي هو نفس هاجس ابن الشاطر والطوسي، والأوردي وغيرهم، وهو التخلص من الإزاحة ومعدل المسار من منطلق كونهما غريبين عن رؤية أرسطو. والأدوات النظرية والفكرية التي استعملها لحل هذه المعضلات هي نفسها التي طورها فَلَكيّو المراغة. أي أن نظرية كوبرنيكوس وثورته هي، إلى حد كبير، ابنة نظريات مدرسة المراغة.

هل من المهم أن يعترف الغرب بتأثير الحضارة العربية الإسلامية على كوبرنيكوس وثورته؟ الإجابة على هذا هي نعم ولا!

نعم، لأن التاريخ هو أمر مهم. فمنه نتعلم الكثير عن طبيعة الحضارة الانسانية وتطور المجتمعات والتيارات العميقة التي تحكم هذا التطور وتميز التفاعلات عناصره المختلفة. وفي هذا السياق بالذات، الدقة التاريخية في حيثيات انتقال المعارف الإنسانية وحدوث طفراتها الفكرية ونشوء تجديداتها الإبداعية، هي أمر في غاية الأهمية لفهم كيف طوّر الإنسان أرقى أفكاره، وأين تطورت، ولماذا. على سبيل المثال، ذكرت في البداية توماس كوون ونظريّته الشهيرة في فلسفة العلوم التي نشرها في كتابه "مبني الثورات العلمية" − الذي يعدّه الكثيرون أهم كتاب في القرن العشرين − والذي فيه عرض تطور الأفكار العلمية من منظور تاريخي متخذًا الثورة الكوبرنيكية كالنموذج الأساسي لهذه الثورات. نستطيع أن نرى بسهولة كيف ستغير قراءة تاريخية دقيقة لتأثير العرب على كوبرنيكوس في الصورة التي عرضها كوون. أي أن أهمية التاريخ تكمن بالأساس في ما نتعلم منه. لهذا، يجب علينا قراءته وفهمه بشكل دقيق وموضوعي حتى نستخلص العبر الملائمة منه.

بالإضافة إلى ذلك، هناك حق تاريخي علينا لهؤلاء العظماء، كابن الهيثم وابن رشد والطوسي والأوردي وابن الشاطر وغيرهم، الذين يجب أن تصفّ أسماءهم بحروف من ذهب في أجمل صفحات التاريخ الإنساني إلى جانب أقرانهم من أبناء الثقافات الأخرى من الذين ساهموا في بناء الصرح الفكري المتين الذي وصلت إليه الإنسانية. لأن هؤلاء ومثلهم لم يساهموا فقط في بناء حضارتهم، بل في الأساس، هم أبطال مسرح أرقى أشكال الوجود الإنساني، وإرثهم يعود لجميع البشر. هؤلاء العمالقة هم أكبر مثال على أن المعارف البشرية ترتبط وتغني بعضها بعضًا. فلا توجد حضارة إغريقية نقية ولا عربية-إسلامية خالصة ولا غربية صافية ولا صينية محضة، إلخ. الحضارات الإنسانية مرتبطة ببعضها بروابط لا تقبل الكسر والتجاهل. وإنجازات الثقافات المختلفة تنتقل من مكان إلى آخر بطرق ومسالك عديدة أشبه بشبكة العنكبوت التي تؤثر كل نقطة فيه على الأخرى، بالرغم من أن هذه الشبكة تحاك حول مركز أساسي وأحيانا حول أكثر من مركز. وهي لا تتطور في جزيرة منعزلة تغذي نفسها بنفسها. مثل هذه الجزر قد تنشأ ولكنها غالبا ما تتوقف عن التطور أو حتى تندثر وتنتهي بعد وقت.

قصة حضارتنا هي مثال لذلك، فقد ابتدأت جذورها في حضارات الشرق الأولى التي انتقل غناها لحضارة الإغريق (التي جذورها الحضارية في الحقيقة أقرب إلينا من الغرب)، الذين طوروها وأحدثوا بها قفزة نوعية كبيرة لتعود مجددا، هي والمعارف الهندية والفارسية وغيرها، إلى مسرح الحضارة العربية الإسلامية التي أحدثت بها قفزة نوعية كبيرة أخرى ومن ثم لِتنتقل إلى أوروبا في عصر النهضة التي استفادت منها ومن غيرها من التأثيرات الأخرى الكثيرة. لهذه الأسباب، وكثير غيرها، علينا أن نعطي لكل جانب حقه!

أما نصف إجابتي الآخر فهو "لا". أي أنه حتى لو سرق كوبرنيكوس كل أفكاره من العرب (وهو لم يفعل ذلك)، لم يكن هذا ليغير الحقيقة المرّة أنه منذ ذلك الحين، بل وقبل ذلك، والغرب في صعود ونحن في تراجع. في الحقيقة، فكرة أن الشمس هي مركز الكون لوحدها، كان مكتشفها من يكون، لا تعني الكثير. لأنها اكتسبت أهميتها مما فعله من لحق كوبرنيكوس بها، فهم الذين طوروها وحولوها لمفهوم متكامل عن الطبيعة، معزول عن الأفكار المسبقة لها. حثّت فكرة كوبرنيكوس هذه المجتمعات على طرح الأسئلة الفلسفية العميقة، وعدم التردد بتحكيم العقل. كما أعطاها الثقة بالنفس بألّا تخاف من سبر غور المجهول واتِّباع الدلائل حيث تأخذها دون تردد، حتى لو تناقضت نتائجها مع أقدس معتقداتها. فهي فكرة واجهت الدوغمائية الدينية السائدة في حينه، وأدت إلى انتصار العقل والمنهج العلمي وأعطت الناس الجرأة على التساؤل والشك ورفض التزمت والانغلاق. فحتى وإن دانت هذه المجتمعات لحضارتنا ببعض انجازاتها، فقد تطورت بالأساس نتيجة عمليات عميقة فيها أدت إلى تغيير مسار تاريخها. وهذه التحولات بدورها هي وليدة تجارب وصراعات وطموحات، وحتى في الكثير من الأحيان، أطماع هذه المجتمعات. باختصار، حدثت الثورة العلمية في أوروبا لأن مجتمعاتها، برغم الصعوبات، احتضنت التغيير وسمحت لعلمائها وفلاسفتها بأن يطلقوا العنان لأفكارهم من غير أن يخشوا العواقب، وهذا، لا نستطيع أن ندعي أنهم "سرقوه منا!" التاريخ، إذا لم نتعلم منه، حتى وإن كان مليئا بأمجاد خالدة، هو مجرد تاريخ. لم تخف حضارتنا في أوجها الفكري من تبني أفكار الفلاسفة الإغريق ولا امتنعت عن دراسة أفكار الحضارة الهندية ولا ورفضت أفكار الفرس ولا ترددت بأن تعطي أي مفكر حقه بغض النظر عن دينه وأصله، ما ميزها هو انفتاحها وتسامحها والثقة بالنفس التي مكنتها من قبول الأفكار المختلفة. هذا هو طريقنا إلى الأمام وليس العويل والبكاء على ما سرق منا. بل علينا المضي قدما بأقدام راسخة عميقا في أرضية تاريخنا المجيد ولكن بقامات تناطح السحاب، تنظر إلى الأمام بكل ثقة وعنفوان، من غير أن نخاف الانفتاح والتحدي وتحكيم العقل والتسامح والتعلم من الغير. فكما يصح أن نقول: ويل لأمة نسيت ماضيها، كذلك الأمر يصح أن نقول: ويل لأمة لا تفخر إلّا بماضيها!

              الثورة العلمية الغربية وعلماء العرب

2/27/2017

 
"لكن ما الضّرورة؟ ما الذي دفع كوبرنيكوس للتفكير بذلك؟" جال هذا السؤال في خاطري خلال الاستماع لمحاضرة أحد مؤرخي العلوم الأمريكيين عن نموذج كوبرنيكوس وبعض تفاصيله، قبل حوالي السنتين. كان  نيكولاس كوبرنيكوس، البولندي الأصل، قد اقترح نموذجا في القرن السادس عشر يقضي  بأن الشمس، لا الأرض، هي المركز الذي تدور حوله الكواكب السيارة. بعد نهاية المحاضرة سألت المحاضر سؤالي، فتلقيت إجابةً طويلةً غير مقنعةً، تتلخص بأن كوبرنيكوس فكر في هذا لوحده. بالطبع استمعت لإجابته بأدب ولكن أيضا بشكّ واضح٠

بعد أسبوع أو إثنين من هذه المحاضرة، قرأت لدهشتي ولصدمتي تعليقا لأحد الأصدقاء، وصف كوبرنيكوس بأنه لصّ وبأنه سرق نظريته من العرب! كيف يكون هذا ممكنًا؟ كيف لمكتشف إحدى أهم الاكتشافات العلمية أن يسرق فكرته الكبيرة؟ ومِن من؟
ما أزعجني هو أني  لم أفكر في فحص العلاقة بين الثورة الكوبرنيكية وعلماء الفلك العرب من قبل. فكيف أقبل رواية علميةً مبهمة حول تاريخ هذه الفترة الهامة وأنا الذي أشغف بفلسفة العلم وتاريخه لحد الولع؟ إذن، أهدف في مقالي هذا البحث في مسألتين، الأولى هي أن أوضح الحقيقة الكامنة في ثنايا هاتين الروايتين المتناقضتين، هل هي في صف رواية المؤرخ الغربي أم صفّ الصديق العربي؟ أو ربما كلاهما، كما يقول مثلنا الشعبي، "يدير النار إلى قُرصِه"! المسألة الثّانية هي أن أسأل: وماذا إذا كانت الرواية التي تقول بأن كوبرنيكوس سرق فكرته هي الصحيحة؟ ماذا سيغير هذا؟

الثورة العلمية
يسمي مؤرخو العلوم مرحلة الانتقال من نموذج بطليموس، الذي وضع الأرض في مركز الأجرام السماوية، إلى نموذج كوبرنيكوس، الذي وضع الشمس في المركز، بأسم الثورة الكوبرنيكية. ابتدأت هذه الثورة مع نشر كوبرنيكوس لكتابه "حول دوران الأجرام السماوية" في عام 1543، مرورًا بقوانين العالم الألماني يوهانس كبلر الثلاثة حول حركة الكواكب السيارة، واكتشاف جاليليو لأربعة من أقمار المشتري التي أثبتت بأن الأرض هي ليست مركز حركة كل أجرام السماء، ونهايةً برائعة نيوتن "الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية" في عام ٠1687

إذن، فهذه ليست من الثورات التي تحدث عادةً في السياسة والتي يتوخى مؤيدوها تغيير العالم في لمحة من البصر.  مثل هذه الثورات هي مجرد سراب وأوهام، لأنّ التاريخ والمجتمعات لا تتغير برمشة عين. لا تحدث الثورات الحقيقية بين عشية وضحاها، بل هي تغيرات  تدريجية متراكمة تعكس عمليات وتفاعلات عميقة، متشعبة، متشابكة وطويلة الأمد. وهي تتطلب صبرًا وإصرارًا وجهدًا كبيرًا من أعداد كبيرة من الناس والمؤسسات. الثورة الكوبرنيكية هي أكبر برهان على ذلك؛ فهي ملحمة فكرية، لها أبطال وأوغاد وانتصارات وإخفاقات. دارت أحداثها في بطون الكتب ومحافل العلماء وقصور البابوات. امتدت حيثياتها على مدى قرن ونصف، رأى العالَم خلالها ظهور النماذج الأولية للعلماء المعاصرين الذين يصبون لفهم الطبيعة وظواهرها كنشاط فكري وتجريبي منعزل عن الدين أو الأعراف السائدة في المجتمع، بل يتبعون الدلائل الرصدية والتجريبية أينما تقودهم. كما وراح ضحيتها الكثيرين من العمالقة مثل جاليليو الذي سجن وجيوردانو برونو الذي أحرق. ولكن أهم نتائجها كانت تغيير مفهومنا للكون والفلك والطبيعة إجمالا، وانتصار الطريقة العلمية ومبناها التجريبي والمنطقي على الغيبيات التي تتجاهل بيِّنات الرصد والتجربة. من الطبيعي أن هذه الثورة أدت إلى تحول جذري في جميع المجالات الفكرية وإلى ترسيخ المنهج العلمي،  بحيث أصبح المنهج الأساسي لدراسة الطبيعة٠

الأمر الذي أود التطرق إليه بداية، هو جذور نموذج كوبرنيكوس. إذ تعطي أغلب المصادر الغربية الانطباع بأن بين بطليموس، الذي وضع نموذجه في عام 148 ميلادية،  وكوبرنيكوس، لم يأت أحد بشيء جديد، اللَّهُمَّ إلاَّ بعض من المفكرين الغربيين الذين سبقوه. أي أن كوبرنيكوس ولّد نظريته من إصبع جوبيتر.  يتلخّص دور الحضارة العربية الإسلامية، حسب هذه القراءة، بترجمة ونقل المعارف الإغريقية من اليونان القديم إلى الغرب، لا أكثر. فهي لم تجدد شيئًا يستحق الذكر لتطوير المعارف الإنسانية والمضي بها قدما! هذه إجمالا الصورة الاستشراقية في الغرب عن مساهمة العرب. وهي صورة مشوّهة ما زال معظمهم يرددها حتى اليوم، على الرغم من الأدلة الدامغة التي تقضي عكس ذلك!٠

دور الحضارة العربية الإسلامية
تنبه المؤرخون في الخمسينات من القرن الماضي إلى وجود عدد من النماذج  في كتاب "نهاية السؤال في تصحيح الأصول" لعالم الفلك العربي ابن الشاطر، كان يُعتقد بانها تعود أصلا لكوبرنيكوس. المفاجأة هي أن ابن الشاطر، الذي كان يحمل لقب موقِّت المسجد الأموي في دمشق، عاش في القرن الرابع عشر أي قرنين قبل كوبرنيكوس. دفع هذا الاكتشاف وغيره مؤرخي العلوم إلى إعادة النظر بالعلاقة بين الفلكيين العرب من جهة وبين كوبرنيكوس وغيره من فلكيي عصر النهضة الأوروبي من جهة أخرى. كما ودفعتهم إلى دراسة البدائل التي ابتكرها المفكرون العرب لنموذج بطليموس، والتي كانت مبنية على تحديثات رياضية خلّاقة أثرت بشكل جلي على إنطلاق الثورة العلمية الغربية٠

على الرغم من النجاح الكبير لنظرية بطليموس، ابتدأ نقد العرب لها منذ القرن العاشر، ولكن الكاتب الأول الذي وضع نقدا منهجيا لها هو الفيزيائي الكبير ابن الهيثم في كتابه "الشكوك على بطليموس" الذي صدر في القرن الحادي عشر. لاحقا، أثارت أعمال عدد من علماء الفلك في الأندلس في القرن الثاني عشر  انتقادات إضافية على بطليموس. ولكن الحركة الفكرية الأساسية التي عمليا دمرت النموذج البطلمي، نشأت في الشرق. وكان مركزها مرصد المراغة (في إيران) الذي أسسه نصير الدين الطوسي وأخرج العمالقة كالطوسي نفسه، ومحيي الدين الأوردي وقطب الدين الشيرازي وعلاء الدين ابن الشاطر الذي ذكرناه (الذي هو ربما أعظمهم) وغيرهم كثيرين٠

ما ميز حركة علماء المراغة، والتي أحيانا يطلق عليها اسم ثورة المراغة، هو اعتمادها وسائل رياضية متطورة للغاية (مثل مزدوجة الطوسي ونظرية الأوردي)  واستخدامها من أجل التخلص، مما اعتقدوا بأنها مشاكل أساسية في نموذج بطليموس. أي أن العلاقة الوثيقة التي نعرفها اليوم بين النظريات العلمية والرياضيات قفزت قفزة جدّية جدا في أعمالهم، وربما كان هذا أهم تأثير لهم على تطور العلوم بشكل عام. ومن المذهل بأن أعمال هؤلاء العمالقة ظهرت في كتاب كوبرنيكوس بشكل جلي، ولكن من غير أن ينوه بدورهم ولا بأسمائهم. كما وامتدت هذه الحركة من القرن الثالث عشر وحتى القرن السادس عشر. بل إن هناك الكثير من الأعمال لعلماء هذه الحركة التي ما زالت قيد الاكتشاف والتحري. فهناك عدة دلائل تؤكد على أن أعمال فلكيي مرصد المراغة كانت مألوفة لعلماء ومفكري القرون الوسطى في أوروبا٠

علي الآن أن أواجه السؤال: ماذا كانت مساهمة كوبرنيكوس المبدئية؟ وهل "سرق" كوبرنيكوس كل نموُذَجه من العرب من غير أن يعطيهم حقهم؟ الإجابة على الشق الأول من هذا السؤال واضحةٌ، فحتى الآن لا نعرف أحدا من قبله وضع نموذجا رياضيا متكاملا وكمّيا، بحيث أن الشمس في مركز الكون − الكثيرون ادعوا بأن الشمس هي المركز (مثل اليوناني أرسطرخس الساموسي) ولكنهم لم يأتوا بنموذج متكامل يطابق المعطيات الموضوعية، ومن الممكن استعماله للتنبؤ بحركة الأجرام السماوية. بالرغم من الكثير من الادعاءات التي تظهر أحيانا، لا يوجد حتى الآن مصدر موثوق وواضح يدعم الادعاء بأن ابن الشاطر أيضًا وضع الشمس في المركز. هذا لا يلغي إمكانية وجود كتابات اقترح  بها ابن الشاطرا ذلك، وصلت كوبرنيكوس ولكنها لم تصلنا. في الحقيقة أنا أميل للشك بذلك، لأن جلّ أعمال ابن الشاطر كانت تهدف إلى توفيق النموذج الفلكي مع كون أرسطو، وخطوة نقل مركز الكون من الأرض إلى الشمس هي انتهاك سافر لكَوْن أرسطو وفهمه للطبيعة٠

لماذا تجاهلونا؟
إذا لماذا لم يعطِ كوبرنيكوس علماء العرب حقهم؟ هذه، باعتقادي، نقطة ليست مهمة كثيرا ونستطيع تفسيرها بعدة طرق. أولا، معايير الاقتباس الشديدة التي نتبعها اليوم لم تكن موجودة في عهد كوبرنيكوس، فقلما اقتبس المفكرون في عصره ممن سبقوهم. وفي الحقيقة، يكرر كوبرنيكوس في كتابه أنه يحاول حل المشاكل التي أشار إليها "السابقون"، من غير أن يفصح من هم هؤلاء السابقون. إضافة لذلك نحن نعلم أن كوبرنيكوس لم يكن يعرف العربية، فمن الأرجح أنه تكشّف أعمال علماء المراغة بشكل غير مباشر. ومن الممكن أن أعمالهم كانت أساس المعرفة الموجودة لعلم الفلك في الأوساط التي تعلم بها في جامعة بادوفا الإيطالية، حيث نعرف بأن المراجع العربية كانت موجودة. أي أن كتابات علماء المراغة كانت جزءا من المعرفة العامة عن الموضوع، ربما  من غير معرفة أسماء هؤلاء العلماء العينية  (بالرغم من أنه ذكر بشكل واضح أسماء عديدة أخرى لعلماء عرب في كتابه)٠

من الواضح أن هناك أسباب أعمق لهذا التجاهل، ليس فقط من قبل كوبرنيكوس (الذي قد نغفر له) بل من قبل أجيال أخرى كثيرة من بعده من المفكرين الغربيين. لماذا هذا التجاهل؟ أولاً، كل حضارة تميل إلى أن تقتبس وتعظّم دور نفسها وأن تعزي لمفكّريها حصة الأسد من الرصيد وتخصصهم بالمفخرة والاعتزاز. فكم بالحري إذا كانت هذه الحضارة في طريقها إلى الصعود، وثقتها بنفسها وبنتاجها الفكري والعلمي والتكنولوجي في أوجها، بالذات في أولى فترات ارتقائها المجدد بعد سبات العصور الوسطى العميق. زد على ذلك بأن الحضارة العربية الإسلامية كانت، وبمفهوم معين ما زالت،  الوحيدة التي تشعر الحضارة الغربية إزاءها بالمنافسة الحقيقية (لربما نتيجة لقربها الجوهري، الضمني والجغرافي). كما أن الحضارة العربية الإسلامية تشكل تحدّيا واضحا لقصة الغرب التي تقول بأن حضارته ابتدأت من "المعجزة الإغريقية" التي لم يكن قبلها ولا بعدها شيء طوال 15 قرن من الزمن، اللهم باستثناء تطوير طفيف للرومان لها، لتعاود نشاطها وانتاجها في عصر النهضة في الغرب بقدرة قادر. ولم يكن دور العرب وغيرهم سوى نقل معارف الإغريق إلى أوروبا، لا أكثر ولا أقل٠

بالطبع لا يمكن أن نتجاهل الدور الذي لعبته هذه القصة الحضارية المفتعلة في مشروع الاستعمار الغربي لاحقا. فهي التي سمحت لهم بأن يعتبروا نفسهم وحضارتهم "أرقى" من الحضارات والشعوب الأخرى مما سوغ لهم حق استعمارها والسيطرة عليها. أي أن هذا التجاهل عبر التاريخ هو جزء من واقع أكبر وأعمق من مجرد اقتباس أعمال في علم الفلك أو الطب أو الفلسفة، أو غيرها٠

ماذا يغير هذا؟
إذن، الأساس الفلسفي والرياضي والنظري الذي بناه علماء حضارتنا كان الأساس المتين الذي ارتكزت عليه أوروبا لتقوم بنهضتها، كما هو جلي في أعمال كوبرنيكوس وأترابه (مساهمة مشابهة  تظهر جلياً أيضا في العلوم الطبية)، وهو الذي مهد الطريق للثورة العلمية الغربية. فعندما نقرأ كوبرنيكوس، نرى بأن هاجسه الأساسي هو نفس هاجس ابن الشاطر والطوسي، والأوردي وغيرهم. والأدوات النظرية والفكرية التي استعملها لحل معضلات حركة الأجرام السماوية هي نفسها التي طورها فَلَكيّو المراغة. أي أن نظرية كوبرنيكوس وثورته هي، إلى حد كبير، ابنة نظريات مدرسة المراغة٠

هل من المهم أن يعترف الغرب بتأثير الحضارة العربية الإسلامية على كوبرنيكوس وثورته؟ الإجابة على هذا هي نعم ولا!٠

نعم، لأن التاريخ هو أمر مهم. فمنه نتعلم الكثير عن طبيعة الحضارة الإنسانية وتطور المجتمعات والتيارات العميقة التي تحكم هذا التطور وتميز التفاعلات عناصره المختلفة. وفي هذا السياق بالذات، الدقة التاريخية في حيثيات انتقال المعارف  الإنسانية وحدوث الطفرات الفكرية ونشوء التجديدات الإبداعية هي أمر في غاية الأهمية لفهم كيف طور الإنسان أرقى أفكاره، وأين تطورت، ولماذا. إذن، تكمن أهمية التاريخ بالأساس في ما نتعلم منه. لهذا يجب علينا قراءته وفهمه بشكل دقيق وموضوعي حتى نستخلص العبر الملائمة منه٠

بالإضافة إلى ذلك، هناك حق تاريخي علينا لهؤلاء العظماء، كابن الهيثم وابن رشد والطوسي والأوردي وابن الشاطر وغيرهم، الذين يجب أن تصفّ أسماءهم بحروف من ذهب في أجمل صفحات التاريخ الإنساني، إلى جانب أقرانهم من أبناء الثقافات الأخرى الذين ساهموا في بناء الصرح الفكري المتين الذي وصلت إليه الإنسانية. لأن هؤلاء ومثلهم لم يساهموا فقط في بناء حضارتهم، بل هم في الأساس أبطال مسرح أسمى أشكال النشاط الإنساني، وإرثهم يعود لجميع البشر٠

هؤلاء العمالقة هم أكبر مثال على أن المعارف البشرية ترتبط وتغني بعضها بعضًا. فلا توجد حضارة إغريقية نقية ولا عربية-إسلامية خالصة ولا غربية صافية ولا صينية محضة، إلخ. الحضارات الإنسانية مرتبطة ببعضها  بروابط لا تقبل الكسر والتجاهل. وإنجازات الثقافات المختلفة تنتقل من مكان إلى آخر بطرق ومسالك عديدة أشبه بشبكة العنكبوت التي تؤثر كل نقطة فيه على الأخرى، بالرغم من أن هذه الشبكة تحاك حول مركز أساسي، وأحيانا حول أكثر من مركز. وهي لا تتطور في جزيرة منعزلة تغذي نفسها بنفسها. مثل هذه الجزر قد تنشأ، ولكنها غالبا ما  تتوقف عن التطور أو حتى  تندثر بعد وقت٠
قصة حضارتنا هي مثال لذلك، فقد ابتدأت جذورها في  حضارات الشرق الأولى التي انتقل غناها لحضارة الإغريق (التي جذورها  الحضارية  في الحقيقة أقرب إلينا من الغرب) الذين طوروها وأحدثوا بها قفزة نوعية كبيرة لتعود مجددا، هي والمعارف الهندية والفارسية وغيرها، إلى مسرح الحضارة العربية الإسلامية التي أحدثت بها قفزة نوعية كبيرة أخرى ومن ثم لِتنتقل إلى أوروبا  في عصر النهضة التي استفادت منها ومن غيرها من التأثيرات الأخرى الكثيرة. لهذه الأسباب، وكثير غيرها، علينا أن نعطي لكل جانب حقه٠
أما نصف إجابتي الأخر فهو "لا". أي أنه حتى لو سرق كوبرنيكوس كل أفكاره من العرب (وهو لم يفعل ذلك) فلم يكن هذا ليغير الحقيقة المرّة أنه منذ ذلك الحين، بل وقبل ذلك، والغرب في صعود ونحن في تراجع. في الحقيقة، فكرة أن الشمس هي مركز الكون لوحدها، كان مكتشفها من يكون، لا تعني الكثير. لأنها اكتسبت أهميتها مما فعله من لحق كوبرنيكوس بها، فهم الذين طوروها وحولوها لمفهوم متكامل عن الطبيعة، معزول عن الأفكار المسبقة لها. حثّت فكرة كوبرنيكوس هذه المجتمعات إلى طرح الأسئلة الفلسفية العميقة، وعدم التردد بتحكيم العقل. كما اعطاها الثقة بالنفس بأن لا تخاف من سبر غور المجهول واتِّباع الدلائل حيث تأخذها دون تردد، حتى لو تناقضت نتائجها مع أقدس معتقداتها. فهي فكرة واجهت الدوغمائية الدينية السائدة في حينه، وأدت إلى انتصار العقل والمنهج العلمي وأعطت الناس الجرأة على التساؤل والشك ورفض التزمت والانغلاق. فحتى وإن دانت هذه المجتمعات  لحضارتنا  ببعض إنجازاتها، فقد تطورت بالأساس نتيجة عمليات عميقة فيها أدت إلى تغيير مسار تاريخها. وهذه التحولات بدورها هي وليدة تجارب وصراعات وطموحات، وحتى في الكثير من الأحيان، أطماع هذه المجتمعات. باختصار، حدثت الثورة العلمية في أوروبا لأن مجتمعاتها، برغم الصعوبات، احتضنت التغيير وسمحت لعلمائها وفلاسفتها بأن يطلقوا العنان لأفكارهم من غير أن يخشوا العواقب، وهذا، لا نستطيع أن ندعي أنهم "سرقوه منا"!٠

التاريخ، إذا لم نتعلم منه، حتى وإن كان مليئا بأمجاد خالدة، هو مجرد تاريخ. في أوجها الفكري لم تخف حضارتنا من تبني أفكار الفلاسفة الإغريق ولا امتنعت عن دراسة أفكار الحضارة الهندية ولا ورفضت أفكار الفرس ولا ترددت بأن تعطي أي مفكر حقه بغض النظر عن دينه وأصله، ما ميزها هو انفتاحها وتسامحها والثقة بالنفس التي مكنتها من قبول الأفكار المختلفة. هذا هو طريقنا إلى الأمام وليس العويل والبكاء على ما سرق منا. بل علينا المضي قدما بأقدام راسخة عميقا في أرضية تاريخنا المجيد ولكن بقامات تناطح السحاب تنظر إلى الأمام بكل ثقة وعنفوان، من غير أن نخاف الانفتاح والتحدي وتحكيم العقل والتسامح والتعلم من الغير.  فكما يصح أن نقول: ويل لأمة نسيت ماضيها، كذلك الأمر يصح أن نقول:  ويل لأمة لا تفخر إلّا بماضيها!٠

(هذا مقال مختصر من مقال بعنوان: وماذا لو "سرق" الغرب أسس ثورته العلمية من علماء العرب؟)

January 20th, 2017

1/20/2017

 

      بين اللانهائي والمحدود في فهم الكون

12/9/2016

 

تأجّج في خمسينيّات القرن الماضي صراعٌ فكريٌّ كبير بين نظريّتين في علم الكون، نظرية الانفجار الكبير (The Big Bang theory) ونظريّة الحالة الثابتة (The steady state theory). انبثقت الأولى بوصفها أحد تطبيقات النسبية العامة النظرية لآينشتاين، وتفترض أن الكون متجانس فراغيًّا (لا زمنيًا)، أي أنّه يبدو مماثلًا بغضِّ النظر عن المكان والاتّجاه الذي نرصده منه. أمّا الثانية، وهي نظرية اقترحها العالم الإنجليزي فريد هويل (Fred Hoyle) وزملاؤه، وتفترض أنّ الكون متجانسٌ في الفراغ والزمان، فهو لا يكتفي بإظهار تماثل أينما رصدناه فحسب، بل يُظهر هذا التّماثل أيضًا في أيّ زمان رصدناه. تمخّض عن الأولى استنتاجٌ مفاده أنّ للكون عمرًا محدودًا ولحظةَ بداية. أمّا الثانية فأحالت بشكل تلقائي إلى استنتاجِ أنّ الكون ابتدأ منذ الأزل وسيبقى حتّى الأزل. أي أنّ لب الخلاف بين النّظريّتين يتركّز حول نهائيّة الكون مقابل أزليّته. يشكّل هذا الصراع مجرد فصل واحد من تاريخ سجال طويل بين مفهوم التكوين ومفهوم الوجود الأبدي.

تاريخ قصص الكون ونظريّاته على أشكالها المتعدّدة هو تاريخ جدل وسجال، وأحيانًا، صراع بين فكرتين مركّبتين؛ فكرة الأزليّة والدّيمومة واللانهائيّة، وفكرة، البدء والزّوال والمحدوديّة. قصدت أن استعمل في وصفي هذا ثلاثة متضادّات لفظيّة، من أجل تمييز مفاهيمَ نخلط بينها عادة عند التفكير في هذه الأمور، لفظان يتناولان الزمن، وهما: البداية والنهاية، ولفظٌ يتناول الفراغ ومحدوديّته. ورغم تعدّد وتباين الأشكال التي تتفاعل بها هاتان الفكرتان في هذه القصص والنظريات؛ إلّا أنّ علاقتهما غالبًا ما تتّخذ صفةً جدليةً فتدفع الكون في عجلة تطوره، أو صفةً تناحريّةً بشكل واضح وصريح تنفي به بعضها البعض. ففي الديانة البوذية مثلًا، يُخلق الكون ويندثر ثم يعود ليُخلق من جديد في عجلة أزلية من الصيرورة والفناء، يكمّل بها السرمدي والنهائي أحدهما الآخر. أما في الديانات التوحيدية فقصّة خلق الكون، والتي عادةً ما يكون مركزها الإنسان، تتلخص في "كن فيكون" التي تعبر عن تبعية النهائي (الكون والإنسان) للسرمديّ (الله). أمّا فلسفة أرسطو، التي سادت عالم المفكرين لقرون عديدة، فتعتبر الكونَ نهائيًّا فراغيًا، فهو مكون من كراتٍ عدّة تشترك بمركزٍ واحد هو مركز الأرض، وتقع عليها الكواكب السيارة والشمس والقمر، وتشكّلُ النجومُ سقفَ حدوده التي تقع على سطح الكرة الكونيّة الأخيرة التي لا يوجد شيء خارجها (هذا هو أساس نموذج بطليموس الشهير). ولكن أرسطو يجزم في الوقت ذاته أنّ الكون مستمر منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد. وهناك العديد من الأمثلة الأخرى التي تعكس هذا السِّجال، في الأديان والنّظريات الفلسفيّة والعلوم، وتدفعها جميعًا بغير استثناء الحاجةُ لفهم العلاقة بين هاتين الفكرتين المتناقضتين. أي أنّ علم الكون يصبو، لا محالة، إلى حسم دور كلٍّ منهما بما يلائم معطيات أرصادنا، من غير ترك ثغرات أو تناقضات منطقية في تصوّرنا.

الخلاف بين نظريتين أو أكثر في تفسير ظاهرة طبيعية هو أمر اعتيادي، يكمنُ في لب العملية العلمية. والحسم بينها يأتي من خلال التنبّؤات المختلفة لكل منها حول الطّبيعة. والتي نستطيع بالتالي دحضها مبدئيًا على الأقل أو تأكيدها بواسطة التّجارب أو الرّصد. هذا ما يميّز النّظريات العلميّة عن غيرها. أي أن تنبؤ النظرية العلمية بنتائج نستطيع فحصها ودحضها هو ما يجعلها "علمية". وكما قال فيلسوف العلوم الشهير كارل بوبر في كتابه منطق البحث "أولئك الذين يرفضون من بين العلماء أن يخضعوا أفكارهم لمخاطر الدّحض [التجريبي] لا يشتركون في اللعبة العلمية". ورغم الأفكار الكبيرة التي تكمن وراء النظريات العلمية والمنطق الذي تحمله؛ إلا أن التفاصيل التي تكمن في طواياها، جليّةً كانت أم خفيّةً، وتماهيها مع ما نجده في الطبيعة هي ما يحكم صلاحيتها. فكما يقول المثل الإنجليزي "الشيطان يكمن في التّفاصيل"!

إذًا ماذا تقول هاتان النّظريّتان، وكيف حُسم الأمرُ بينهما لصالح نظريّة الانفجار الكبير؟ دعونا أوّلًا نلج في صلب مفهوم كل منهما عن الكون، ونتناول باقتضاب المنطق من ورائهما وتداعِياتهما على الكون وخوّاصه. وسأبدأ بنظريّة الانفجار الكوني الكبير التي هي العمود الفقري لفهمنا الحالي للكون وتطوره.

نظرية الانفجار الكبير 

كما ذكرت سابقًا، تعود الخطوات الأولى لهذه النظرية إلى ألبرت آينشتاين، وذلك بعد أن وضع نظريته حول الجاذبية، المعروفة باسم النظرية النسبية العامة. تمخّضت نظريته عن معادلة معروفة باسمه، معادلة أينشتاين، التي حاول إيجاد حلول لها لإعطاء أمثلة عليها وفحص نتائجها. أحد هذه الأمثلة هو منظومة الكون، التي افترض أينشتاين خلالها أن الكون متجانس فراغيًّا، أيّ أنّه كما أشرت أعلاه يظهر متماثلًا بغض النظر عن مكان الرّصد أو اتجاهه. بكلمات أخرى لا يوجد مكان خاص في الكون! أصبح هذا الافتراض يعرف بالمبدأ الكوني (والمبدأ الكوبرنيكي أيضًا) ويعود بالأصل إلى نيوتن. بعد هذا بسنوات عدّة، وجد العالم الرّوسي ألكسندر فريدمان (Alexander Friedmann) حلًّا لمعادلة أينشتاين في حالة فرضيّة المبدأ الكوني، نتج عنه أن كوْنًا كهذا يجب أن يكون في حالة انتشارٍ أو انكماشٍ دائم.

من الجدير بالذكر أن أينشتاين رفض في البداية قبول حلول فريدمان واعتبرها مجرد رياضيّات جميلة لا تمتّ للكون الحقيقي بصلة، السبب الأساسي في ذلك هو اعتقاد أينشتاين بسكون الكون وثباته، لأن انتشاره أو انكماشه يشير إلى لحظة بداية أو نهاية، الأمر الذي ناقض اعتقادًا فلسفيًّا عميقًا لديه بعدم وجود بداية للكون (سأعود لهذه النقطة لاحقًا). أصدر أينشتاين عام 1917 مقالًا حول منظور الكون من خلال نظريته الشهيرة وتوصّل كما فعل نيوتن من قبله وفريدمان من بعده، لاستنتاجٍ يفيد أنّ الجاذبية لا تسمح للكون أن يكون ثابتًا، أي أنّه متغير، مما يعني أنّه ليس بمقدوره أن يكون قد ابتدأ منذ الأزل. لهذا اقترح إضافة حد ثابت جديد لمعادلات النّظريّة النّسبية العامّة، يعطي تأثيرًا مضادًا للجاذبية، أسماه الثابت الكوني، يستطيع بواسطته إلغاء ظاهرة الانتشار.

لكن في عام 1927 اكتشف العالم الأمريكي إدوين هابل (Edwin Hubble) انتشار الكون بواسطة رصده لبعد المجرات المعروفة آنذاك وسرعتها بالنّسبة للأرض، وهذا ما دفع أينشتاين للتصريح أنّ الثابت الكوني هو "أكبر خطأ ارتكبه في حياته"، أي أنّ إصراره الميتافيزيقي على سكون الكون دفعه إلى تشويه تحليله الموضوعي للحقائق. سأذكر بشكل عابر هنا، أننا اليوم نعرف أن الثابت الكوني هو في الحقيقة مفهوم مهم لفهم ظاهرة الانتشار المتسارع التي يمر بها الكون الآن.

بناء عليه استنتج العالم البلجيكي، الذي كان كاهنا في صفوف الكنيسة الكاثوليكية، جورج لاميتر (Georges Lamaître)، أنّنا إذا عكسنا اتجاه انتشار الكون، أي عدنا بالزمن إلى الوراء، نصل إلى نقطة معيّنة كان بها حجم الكون صفرًا، مما يتضمّن في معناه أن للكون بداية! من المثير للاهتمام أّنه عندما أصدر بابا الكنيسة الكاثوليكية، بيوس الثاني عشر (Pius XII)، بيانًا عام 1951 يرحب به بنظرية لاميتر ويعدّها إثباتًا على العقيدة الكاثوليكية (المشتركة لكلّ الديانات التوحيدية) التي تقول أنّ الكون خلق على يد خالق، سارع لاميتر بتحدي إعلان البابا، ونجح بإقناعه بسحبه، محتجًّا أنّ نظرية الانفجار الكبير هي نظرية علمية، وهذا ما ينفي عنها تعززيها أو نقضها لتعاليم الدين. لا يوجد حسب لاميتر علاقة بين العلم والدين، فقد فهم جيدًا حقل الألغام الذي يمثله ربط كهذا، بإسقاطاته السلبية على الدّين.

إذًا، تقول نظرية الانفجار الكبير إننا نعيش في كون منتشر (أي آخذ في الابتعاد عن بعضه البعض) نشأ قبل نحو 14 مليار عام. وكلما نظرنا إلى الماضي كان الكون أصغر، ذا كثافة وضغط وحرارة أعلى. وعندما نقترب إلى اللحظات الأولى من عمر الكون، ترتفع الحرارة والكثافة لدرجة كبيرة بحيث أن تصرّف المادّة يتغيّر جذريًّا بالنّسبة لتصرّفها الذي نعرفه من حولنا، بالتحديد، ما يحدث هو أنه خلال انخفاض الكثافة ودرجة الحرارة منذ بدء الكون حتى الآن تخضع المادة والطاقة في الكون لتحوّلات جذريّة عدّة، تعرف في الفيزياء باسم "تحوّلات طوريّة" (phase transitions) ومن أمثلة هذه التحولات التي نعرفها جميعًا؛ تحول الماء من الحالة السائلة إلى الصلبة عندما يتجمد، أو من السائلة إلى الغازيّة عندما يتبخّر. التّحوّلات الطّوريّة التي يمر بها الكون بالطبع، تختلف عن التّحول الطّوريّ للماء، وتتغيّر طبيعتها في كل مرحلة من مراحل الكون تغيّرًا جذريًا.

كان العالم الأمريكي (السوفييتي الأصل) جورج چاموڤ (George Gamow) وزملاؤه قد اقترحوا بعد الحرب العالمية الثانية؛ أحد أهم التحولات الطوريّة في تاريخ الكون، وهو التحوّل الذي أدّى إلى تكوّن العناصر الكيميائيّة الأساسيّة في الكون. حدث هذا التحول عندما كان عمر الكون ما بين مايكرو ثانية (جزء من مليون من الثانية) وثلاث دقائق، أنتج الكون آنذاك العناصر الأكثر شيوعًا فيه، الهيدروجين (75%) والهيليوم (25%). قبل هذه المرحلة كانت درجة حرارة الكون أعلى من أن تسمح بتكوّن عناصر، أما بعدها فأصبحت كثافة الطاّقة في الكون أقلّ من أن تتيح تكوين عناصر أثقل من الهيليوم. يجدر التنويه هنا أنّ العناصر الأكثر ثقلًا، كالأكسجين والكربون والحديد وغيرها، موجودة بنسبة ضئيلة جدًا ولا ينتجها الكون في اللحظات الأولى من تكوينه، إنّما تَتَكوّن نتيجة تحوّل الهيدروجين والهيليوم إلى عناصر ثقيلة بواسطة التّفاعلات النّووية التي تحدث في باطن النّجوم خلال دورة حياتها وموتها.

مثال هام آخر، أيضّا من جعبة جورج چاموڤ، هو التّحول الطّوريّ الذي حدث بعد نحو 380 ألف عام من تكون الكَون، حينما تنتقل ذرات الهيدروجين والهيليوم من الحالة المتأيّنة إلى الحالة المتعادلة. تتّخذ هذه المرحلة أهمّيتها من كونها المرحلة التي يتحوّل فيها الكون إلى كون شفاف يسمح للضوء بالانتقال من مكان إلى آخر بحرِّية، فقبل هذه المرحل يكون الكون ضبابيًا يتواجد فيه الضوء في حالة اتزان حراري مع المادة ويتشتَتُ باستمرار بشكل عشوائي (كما يحدث له داخل غمامة كثيفة)، أمّا بعدها فيتحول إلى مكان جليٍّ واضح يستطيع الضوء الانتقال فيه بحرّيّة. يأخذنا هذا التحوّل الطوري لأبعد نقطة نستطيع أن نراها بشكل مباشر بعد الانفجار الكبير، أي بعد 380 ألف عام من حدوثه، فمنها نرصد الأشعة المسمّاة بالأشعة الكونيّة الميكرونيّة التي هي بقايا الضوء الذي يصلنا من نشأة الكون.

إذًا، هناك على الأقل ثلاثة تنبؤات واضحة لنظريّة الانفجار الكبير: يشير الأول إلى أنّ كثافة الكون تقل مع الزّمن نتيجة انتشاره، ويخبرنا الثاني بوجود الكثير من الهيدروجين والهليوم في الكون −ستكون للهيليوم بالذات أهمية في قصتنا− أمّا التنبؤ الثالث فينصّ على وجود أشعة تأتي من كل اتّجاه في الكون، كانت في الماضي السحيق في حالة اتّزان حراري مما يجعل لها ألوان طيف خاصّ جدًّا، يسمى في الفيزياء طيف پلانك (نسبة للعالم الألماني ماكس پلانك). في الواقع، لدينا عدد هائل من تنبؤات هذه النظرية لكني سأكتفي الآن بهذه الأمثلة لأهميتها التاريخيّة وسأعود لذكر تنبؤات أخرى لاحقًا.

إشكالية بداية الزمن

لكن قبل أن نكمل قصتنا؛ دعونا نقف قليلًا عند رفض آينشتاين الأوّلي لفكرة وجود بداية للزمن، ما الذي دفعه لهذا الظنّ؟ كما ذكرت سابقًا، لم يكن هذا اعتقاد أينشتاين وحده، بل شاركه به العديد من العلماء والفلاسفة الآخرين الذين لم يحبّذوا فكرة لحظة بداية للكون، وذلك لأسباب عديدة سأذكر هنا اثنين منها.

أوّل هذه الأسباب هو التساؤل الفيزيائيّ البسيط: لماذا يرضخ الكون لتجانس فراغي -كما تنصّ نظرية الانفجار الكبير- لا لتجانس زمني؟ ألم تبيّن النّظرية النّسبية أن الزمن والفراغ مرتبطان عضويًا بعضهما بعض، بل وأكثر من ذلك، فنحن نعرف أنه في ظروف خاصة جدًّا مثل السقوط داخل ثقب أسود، يتبدّل تصرّف الإحداثيّات بحيث تصبح إحداثيةُ الزمن إحداثيةَ فراغ، والعكس صحيح، أي أنّ الزّمان والمكان يختلطان، إذًا ما الذي يميز الزّمن عن الفراغ بهذا الشّكل الأساسي؟

حتى إذا قبلنا فكرة أنّ الزمن والفراغ مختلفان، ما الذي يجعل الكون يوجد من عدم (ex nihilo) في لحظة معيّنة، ما الذي يميز تلك اللحظة عن سابقتها أو تلك التي تليها، أي كيف نفسر بصفتنا علماء ضرورة تلك اللحظة بواسطة قوانين الطبيعة؟ إنّ الحاجة لتفسير لحظة النشوء وتوقيتها تخلق إشكاليّات أعمق وأصعب للفهم، من فكرة الوجود اللانهائي للزمن.

واجه الفلاسفة الإشكالية ذاتها على مر التاريخ، فقد ذكرنا أنّ أرسطوطاليس ظنّ بعدم وجود لحظة بداية، وفسّر اعتقاده هذا بشكل مبهم قليلًا قائلًا إننا نستطيع تخيل وجود اللحظة السابقة للحظة البداية، أيًّا كانت هذه اللحظة! أمّا ابن رشد، الذي رفض أيضًا وجود لحظة بداية، فبرّر ذلك بحجة منطقية ودينية دامغة تقول إنّ وجود بداية ينتقص من فكرة كمال "الخالق" ولا نهائيته أو يتعارض معها. بينما يعتقد الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط، أنّ الفراغ والزمن غير محدودين لأننا لا نستطيع التفكير بمحدوديّتهما، وذلك نتيجة معرفة مسبقة طُبعت فينا، وهذا انعكاس لصفات الزمن والفراغ الحقيقيّة. نستطيع أن ندرج هنا أمثلة أخرى كثيرة جدًا، كما من الممكن أن نلج في خضم نقاشات مشابهة في الأديان المختلفة.

إلّا أنّنا هنا لنتحدث عن فهمنا العلمي للطبيعة لا الفلسفي، فما ذكرناه من مواقف ونقاشات فلسفية مثيرة للاهتمام وآسرة للخيال هي مجرد مواقف، ما دمنا لا نربط بينها وبين ما نرصده في الطبيعة، إذ أنّنا لا نستطيع من غير تنبؤات عينية وأدلة موضوعية تجريبية أن نسبر لب الحقيقة، فقد رأينا مثلًا أن نظريّة الانفجار الكبير تقوم على تنبؤات عينيّة قابلة للرّصد والتجربة، تمكّننا من أن نعرّض النظريّة لمخاطر الدّحض التّجريبي، كما ذكر كارل بوبر. الشق الثاني من هذا المنطق هو أنّنا إذا رغبنا في كون بلا بداية علينا إيجاد نظرية عينية تفصيليّة للكون، تتيح لنا أن نمتحنها من خلال حكم الواقع والتجربة، فإما أن تنجح وتعيش لتواجه امتحانات أخرى وإمّا أن تفشل وتذهب طيّ النّسيان. هذا بالضبط ما حاول فريد هويل وزملاؤه فعله، باقتراح نظرية علمية تفصيلية، تكمن فرضيةً تجانس الزّمن والفراغ في لبّها، وتعرف باسم نظرية الحالة الثابتة.

نظرية الحالة الثابتة

بعد اكتشاف قانون هابل وانتشار الكون، أصبح واضحًا، كما اعترف آينشتاين ألّا مكان لنظرية الكون الساكن التي كانت ملاذ من يعتقد بعدم وجود بداية للكون. لكن في عام 1948 نشر ثلاثة علماء بريطانيين هم هويل ( Hoyle) وچولد ( Gold) وبوندي ( Bondi) مقالان اقترحوا فيهما مخرجًا جديدًا لفكرة التجانس الزمني والكون الذي ليس له بداية. عرضوا فيه فكرة خلّاقة تزعم أنّ انتشار الكون لا يعني ابتداءه في لحظة معينة، بل هو انتشار كان وسيبقى إلى الأزل، لكن كيف يمكن هذا؟ إنّ الظواهر التي يوجد فيها حركة ولكنها لا تُحدث تغييرًا تملأ الطبيعة في الحقيقة، ولعل أوضح الأمثلة على ذلك مياهٌ تجري في نهر هادئ، فنحن نعلم أنها جارية ولكننا لا نرى تغييرًا ظاهرًا. إذًا تفترض نظرية "الحالة الثابتة" أن الكون متجانس زمنيًّا وفي حالة جريان "هادئ" ودائم، تبتعد فيه كل نقطة عن جارتها بوتيرة ثابتة.

ولكن مهلًا، ألا يقتضي انتشار الكون تغيّر كثافته بالضرورة؟ ذلك لأنّه إذا أخذنا وحدة حجم ثابتة في الكون، فإن كمّيّة المادّة الكامنة داخلها ستقِّل مع الزمن لأن بعضها سيغادر هذا الحيّز المعيّن، ولكن نظرية الكون الثابت تقول إنّه لا يحدث تغيّر مع الزمن! لحل هذه الإشكالية أضاف هويل وچولد وبوندي إلى نظريتهم فكرة تقضي بوجود طاقة كامنة في الكون، تتحرّر كلّ الوقت وتتحول إلى مادة تعوض بدورها الكثافة التي يخسرها الكون نتيجة انتشاره، ويشبه تحرّر مثل هذه الطاقة ظاهرة الحرارة الكامنة التي تنطلق عند تحول الماء من صلب إلى سائل من غير تغيّر في حرارته. إذا فهذا أول فرق يمكننا رصده بوضوح بين هذه النظرية ونظرية الانفجار الكبير. فالأولى تفترض أنّ كثافة الكون ثابتة لا تتغير بينما تفترض الأخرى أنّها كانت أكبر فيما مضى.

النّظريات العلميّة ومخاطر الدّحض التّجريبي

الطريق أمام أي نظرية فيزيائية طريقًا وعرة ومليئة بالإخفاقات والمخاطر. في خمسينيّات القرن الماضي انقسم علماء الكون بين هذين الخيارين: كَوْنٌ وُجد فجأة وكون كائن منذ الأزل. لكلّ نظريّة إيجابيّاتها ونواقصها، فما العمل إذا؟ لن أدخل في تفاصيل كثيرة هنا، ولكني سأنوّه مجددًا إلى أنّ ما يحسم بين النظريات المختلفة هو الرصد والتجربة التي تمكّننا من دحض تنبؤاتها أو امتحانها. لكن هذا في الحقيقة أعقد مما يبدو بكثير، فهناك أولًا أخطاء عديدة يمكن أن تحدث في عملية الرصد أو التجربة، أي أنّ النّتيجة التجريبيّة قد تكون خاطئة أو مفهومة بشكل خاطئ. قد يحدث أيضًا لبس في تحليل بعض جوانب النظرية التي قد تؤدي إلى تناقض ظاهريّ مع النّتائج التجريبيّة. إضافة إلى ذلك، لا يعني وجود مثل هذه التّناقضات بالضرورة خطأ النظرية، بل قد يعني فقط عدم اكتمالها أو نضوجها بعد. لدينا أيضًا إشكال أساسي أكبر مما ذُكر، يتضمّن القيام بأي تجربة أو رصد بين طواياه فرضيات نظرية كثيرة ترتكز على آرائنا المسبقة حول ماهية الظاهرة الطبيعية، أي أنّ تجاربنا، كما يسمونها في فلسفة العلوم، مثقلة بالنظريات (theory laden) وهي قضية أساسيّة يجب أن نتوخّى الحذر منها. سأعطي فيما يلي أحد الأمثلة على التباسٍ حدثَ نتيجة خطأ تجريبي في قياس قانون هابل، أوقع نظرية الانفجار الكبير في مأزق تلك الفترة.

يقضي قانون هابل بوجود تناسب طردي بين بُعْد المجرات وسرعة ابتعادها عنا، يربط بينهما ثابت تناسب يسمّى ثابت هابل، يعطينا بدوره وبشكل تلقائي وطبيعي، تقديرًا لعمر الكون. لكن عندما اكتُشف هذا القانون كان هناك خطأ منهجي في قياس بعدنا عن المجرات، لأن قياس بُعد الأجرام السماوية هو من أصعب القياسات في فيزياء الفلك، وأدى هذا الخطأ إلى قياس مغلوط لقيمة ثابت هابل بمقدار 5 أضعاف قيمته الحقيقية تقريبًا. تمخض عنه نتيجة مستحيلة  تتمثّل في أن عمر الكون أقلّ من عمر نجوم كثيرة فيه، في حين أن عمر الكون لا يمكن أن يكون أصغر من عمر محتوياته. يجدر التنويه أنّ هذا القياس لا يشكل مشكلة بالنسبة لنظرية الحالة الثابتة التي يُعتبر عمر الكون تبعًا لها لا نهائي، بالتالي لا يمكن أن يتناقض هذا القياس مع تقديرنا لعمر النجوم. نحن نعرف الآن أنّ المشكلة كانت في القياس وليس في النظرية، وهذا ما لم يكن واضحًا في حينه.

للتلخيص، ذكرنا أنّ نظرية الحالة الثابتة تتنبأ بكثافة كونيّة ثابتة، بينما تفترض نظرية الانفجار الكبير تغيّر كثافة الكون لتصبح أقلّ مع مرور الزمن. ذكرنا أيضًا أنّ نظرية الانفجار الكبير تتوقع وجود كمية كبيرة من الهيليوم في الكون (25% من وزنه) بينما يُعتبر المكان الوحيد الذي ينتج به الهيليوم كما تخبرنا نظرية الحالة الثابتة هو بطون النجوم التي لا نتوقع أن تنتج كمًّا مماثلًا من الهيليوم. أمّا التنبؤ الثالث فيتعلق بالأشعة الميكرونيّة الكونية التي تأتي من كل اتّجاه، والتي تنشأ في نظريّة الانفجار الكبير من التحولات الطّوريّة في الكون كلّه أما في نظرية الحالة الثابتة، فتطلقها النجوم الواقعة على أبعاد سحيقة، لذلك تختلف صفات هذه الأشعة تمامًا.

عند الامتحان يكرم المرء أو يهان: اكتشاف الأشعة الميكرونيّة الكونيّة

في عام 1964، عثر العالمان الأمريكيان أرنو پنزياس (Arno Penzias) وروبرت ويلسون (Robert Wilson)

 بطريق الصدفة على أحد أهم الاكتشافات العلمية على مر العصور. حدث ذلك في مختبرات شركة بل (Bell Labs) حيث كانا يعملان على تلسكوب لرصد الفضاء بواسطة الأمواج الميكرونية، وهي أمواج كهرومغناطيسيّة يتراوح طولها بين 0.1 سنتمتر ومتر، أي أنّ تسميتها بميكرونية لا تمت بصلة لطول موجتها. لاحظ حينها پنزياس وويلسون أنّ أجهزة التلسكوب ترصّد تشويشًا غير متوقع يأتي من كل اتّجاه، ظنّا في البداية أنه نتيجة عطب في أجهزة الرّصد، وحاولا فحص مصادر أخرى لهذا التشويش دون جدوى، فقد بقي مصدر هذا التشويش الغريب الذي يأتي من كل اتجاه مجهولًا. لكنهما أدركا بعد بحث طويل وسؤال بعض علماء الكون إلى أن نظرية الانفجار الكبير تتوقع أن تأتينا أشعة ميكرونية من ماضي الكون السحيق من جميع الاتجاهات، وهي أشعة حرارية لها طيف پلانك نستطيع بواسطتها قياس حرارة الكون اليوم، وهي 2.73 درجة حرارة مطلقة (نحو 270 درجة تحت الصفر).

أحدث هذا الاكتشاف ثورة في مفاهيمنا، كانت نتيجته الأولى انتصارًا واضحًا لنظرية الانفجار الكبير، لأن للأشعة الميكرونية نفس الصفات التي توقعتها هذه النظرية. ومنذ اكتشافها أصبحت هذه الأشعة أشبه بالإوزة التي تبيض ذهبًا بالنسبة لعلماء فيزياء الكون، فما انفكّت تزودنا بكنز من المعلومات تلو الآخر عن تاريخ كَوْنِنا وتطوره، وليس صدفةً أن تمنح لجنة نوبل للفيزياء جائزتها مرتين لأربعة علماء يعملون في هذا المجال، اثنين في عام 1978 واثنين آخرين في عام 2006.

بعد اكتشاف الأشعة الميكرونيّة الكونيّة، أخذت نظرية الحالة الثابتة بالانحسار تدريجيًا. كما تبلور أيضًا إدراكٌ لعدم توافق كمية عنصر الهيليوم في الكون مع هذه النظريّة، بل مطابقته تمامًا لتوقعات النظريّة المنافسة. وتدريجيًا أخذت تتفاقم الدلائل التي تدعم نظرية الانفجار الكبير، مثل تغيّر كثافة الكون مع الوقت، الأمر الذي نرصده الآن بشكل روتيني، كما تطورت نظرية الانفجار الكبير فأصبحت تحوي تفاصيلًا أخرى تفسر نشوء المبنى المركب في الكون وتكون المجرات وكمٍّ كبير غيرها من الظواهر. باختصار تُعتبر نظرية الانفجار الكبير اليوم نظريةً ناجحةً جدًا، إذ أنها تفسر ظواهر الكون وخواصّه بشكل دقيق جدًا وتعد من أهم إنجازات الإنسان العلمية والفكرية على مر العصور.

وتدور العجلة مجدّدًا

يُدعى أحد العناصر التي أضيفت إلى نظرية الانفجار الكبير بالتضخّم الكوني (cosmic inflation) وهو تحوّل طوري يحدث في مرحلة مبكرة جدًا من عمر الكون، عندما كان يبلغ جزءًا ضئيلًا جدًا من الثّانية، ففي هذه المرحلة يكبر الكون خلال ومضة عين نحو 1030 مرّة (واحد أمامه 30 صفرًا). وكانت هذه المرحلة قد اقترحت في بداية الثمانينيّات على يد العالم الروسي ألكسي ستاروبنسكي (Alexei Starobinsky) والعالم الأمريكي آلان جوث (Alan Guth) بشكل مستقلّ. وبالرغم من غرابة هذه المرحلة في تاريخ الكون إلّا أنّها ضرورية لحلّ عدد من المشاكل الأساسية التي كانت تواجه نظرية الانفجار الكبير، ومن أهمها هو كيف أنشأ الكون التموجات الصغيرة جدًا في كثافة المادة، التي تكبر ببطء على مدى عمر الكون لتكِّون لاحقًا المجرات والنجوم والكواكب السيارة. أو لماذا يتّخذ الكون درجة حرارة واحدة أينما نظرنا إليه، وغيرها. سأعود لشرح هذا الموضوع في مقال قادم.

طوّر العلماء الذين يدرسون الكون المبكر في العقود الأخيرة، عددًا كبيرًا من النماذج الممكنة لتضخم الكون، جزء منها بسيط نسبيًا وجزء مركب. تتكلم أهم هذه النماذج عن تضخم من غير توقف، يولد من خلاله عدد لانهائي من الأكوان (multiverse). ومن المذهل حقًا أن قياسات الأشعة الميكرونيّة أصبحت دقيقة جدًا بحيث أنها دحضت جميع النماذج البسيطة للتضخم الكوني، وأبقت فقط على النماذج التي تتنبأ بوجود عدد لانهائي من الأكوان التي تولد كلّ الوقت، هذا لا يعني أن هذه النماذج صحيحة ولكنها النماذج الأساسية التي نملكها في الوقت الحاضر.

عدنا إذًا من حيث بدأنا! الكون الذي نعيش به نشأ حسب نظرية الانفجار الكبير في لحظة معينة، وله بداية في الزمن، لكنّه حسب نظرية توالد الأكوان مجرد واحد من عدد لانهائي من الأكوان، ابتدأت بالنشوء لربما منذ الأزل وستبقى تنشأ إلى الأبد. أي أنه على الرغم من خسارة نظرية الكون الساكن ونظرية الحالة الثابتة، إلّا أن الفكرة الأساسية من ورائهما، فكرة تجانس الزمن ولا نهائيّته في الماضي والمستقبل، ما زالت حية ترزق. هذا الرقص الكوني بين اللانهائي والمحدود ما زال يؤرّقنا ويتحدّانا.

هناك سبب آخر يحذُّ العديد من العلماء لتبني نظرية الأكوان المتعددة، وهو سبب فلسفي يسمى بالمبدأ الأنثروبي (The Anthropic Principle)، سأحاول شرحه ببساطة واقتضاب هنا. من الواضح أن الكون الذي نعيش به يمتلك شروطًا مواتية لنشوء الإنسان. وحين نتمعن في الكثير من صفاته، مثل قيمة ثوابت الطبيعة أو كتل الأجسام الأوّلية فيه، نلاحظ أنّها خاصّة جدًا. لهذا نسأل ما الذي جعل كوننا يحمل هذه الصفات الخاصة التي تسمح بوجود الإنسان؟ أحد أجوبة هذا التساؤل يقول أنّها مجرد صدفة، وهو جواب لا يفضله العلماء، فمن غير المقنع أن تكون الصدفة اختارت من بين عدد لا نهائي من الإمكانيات تلك الصفات المعينة جدًا التي تسمح بوجودنا. إجابة أكثر منطقية هي أن يُعتبر كوننا أحد الأكوان، من بين عدد لا نهائي من الأكوان الأخرى، التي تتميّز بصفات فيزيائيّة تسمح بتطور حياة ذكيّة، مثل الإنسان، فيه.

هناك نقاش حاد بين علماء الكون حول نظريات كهذه، لأنّ ما نملكه الآن يُعتبر مجرد دلائل أوّليّة لا أدلة قاطعة. فحتّى إذا كانت نظرية الأكوان المتعدّدة صحيحة، فما هي عملية الرّصد التي نستطيع أن نقوم بها لنعرف ما إذا كان هناك عدد كبير جدًا من الأكوان؟ فهي في نهاية المطاف أكوان أخرى ليس لدينا وسائل للوصول إليها أو حتى معرفة وجودها، فهذا ينقض الشرط الأساسي من وراء تعريف النظريّة العلمية الذي ذكرناه سابقًا، أي أنّها تحوي إمكانيّة دحضها. إذاً، هل نضحّي بمفهومنا الأساسي لما هو علم لكي ننقذ قناعتنا بتجانس الزمن، الذي يقود إلى أنّ خلق الأكوان ابتدأ منذ الأزل. السجال مستمر!

إنه من المذهل حقاّ أننا نستطيع بصفتنا علماء العودة إلى الوراء، إلى المراحل الأولى جدًا من عمر الكون بما نرصده على الأرض. والأكثر إثارةً من ذلك هو أنّ باستطاعة العلم فهم الكون وتطوره بمثل هذه الدقة والتفصيل. للعلم في وقتنا قصة واضحة عن مجريات الأمور منذ بدء الكون وحتى وجودنا الآن. فنحن الجيل البشري الأول الذي يحظى بمثل هذه المعرفة والفهم عن كوننا وتاريخه ومكاننا فيه. هذا بالطبع لا يعني أننا نعرف كل شيء عن الطبيعة وقوانينها، ولكنّ العلم وأدواته يحفزنا بالاستمرار في سبر غور واقعنا وعالمنا، حتى نستمر على طريق الاكتشاف والمعرفة، فلربما يكون من حظنا حسم هذه العلاقة المذهلة والرقصة الكونيّة الرائعة ما بين اللانهائيّ والمحدود.

 

<<Previous
    Picture

    سليم زاروبي
    ​فيزيائي فلك

    لرؤية موقعي المهني إضغط هنا

    بين الحقيقة والنظرية: البابليون، خسوف القمر والكورونا
    −
    أسامينا!
    −
    الفاشية هنا
    −
    المرأة هي  المستقبل
    −

    دليل الحيران بين الزمان والمكان: النسبية الخاصة والثورة التي احدثتها
    −

     شيء من عدم: الكون، نظرية الكم وطبيعة الواقع العجيبة
    −
    وماذا لو "سرق" الغرب ثورته العلمية من علماء العرب؟
    
    −
    
    الثورة العلمية الغربية وعلماء العرب
    
    −
    
    بين اللانهائي والمحدود في فهم الكون
    −
    الحياة في الكون: هل هناك غيرنا؟
    هل هناك حياة ذكية غيرنا في الكون؟ − المقال المختصر  
    −
    ​
    أتسمح لي بسؤال: هل أنت مسلم أم مسيحي؟ الجزء الثاني
    أتسمح لي بسؤال: هل أنت مسلم أم مسيحي؟ الجزء الأول
    −

    مئة عام على النظرية النسبية العامة لأينشتاين - المقال الكامل
    −
    الدين وصناعة العلم

    April 2020
    January 2020
    May 2018
    March 2018
    February 2018
    September 2017
    March 2017
    February 2017
    January 2017
    December 2016
    September 2016
    July 2016

  • Home
  • Research Interests
  • Publications
  • Teaching
  • Popular Articles
  • مقالات عربية
  • مقابلات ومحاضرات
  • Blog