كعنقاء الرماد الأسطورية، ينهض من عتمات الظلام القاتمة وخيبات الأمل المحبطة شعب أبى أن يموت، شعب خذلته قيادته، وأباحت دمه عُروش الخيانة والذلّ، ليتفرّد به وحش الفاشية الإسرائيلي الأرعن وعرّابوه ليحكّموا به آلة القمع والقتل. لكن العنقاء تُبعث من جديد في غزة، هكذا فعلت قبل ثلاثين عاما حين وُلدت الانتفاضة الأولى، وهكذا تفعل اليوم حين أعلنت حقّها في الحياة، وفي نفس الوقت، أعادت فتح حساب النكبة مع الحركة الصهيونية وإسرائيل.
هناك عدة دروس نأخذها من هذه الأحداث؛ أوّلها وأهمّها، أن أنجع سلاح في أيدي الفلسطينيين هو نضالهم السلمي الذي يستقي قوته من حقّهم المشروع، وعدالة قضيتهم، وإصرارهم على إنسانيتهم. فعلى الرّغم من جرائم إسرائيل التي تنفطر لها القلوب، وألم الضحيّة ووجعها، إلّا أنّ الذي انتصر في هذه الجولة هو الحقّ الفلسطيني. سلاحنا هو ليس البندقية ولا المدفع ولا الدبّابة. وإنّما سلاحنا هو حقّنا وعزّتنا وإصرارنا على المطالبة به!
لقد خلعت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة المعتوه ترامب، ورقة التين التي تغطّي عورة تحيّزها الكامل وغير المشروط لإسرائيل وسياساتها الإجرامية. هذا الغطاء السياسي والعسكري والدولي، الذي يوفر لإسرائيل أفضل الظروف الإقليمية منذ قيامها. في الحقيقة، لا يمكن أن نتخيّل فترة سياسية في التاريخ مواتية لإسرائيل وسياساتها أكثر من الفترة التي نعيش، وعلى الرغم من هذا، ضحايا غزة العزّل يفضحون وحشية إسرائيل في جميع عواصم العالم. هكذا كان في الانتفاضة الأولى وهكذا الآن.
الحراك الشعبي في غزة هو حراك حقيقي يأتي من الناس، ولم يُفرض عليهم من أي سلطة سياسية أو اجتماعية أو دينية. على الرّغم من ادّعاء إسرائيل أنّ حماس تجبر الناس على التظاهر على الحدود، إلّا أنّ تقارير الصحافة العالمية والمؤسّسات الدولية الفاعلة في غزة توضح وبشكل لا يقبل التأويل، بأنّ الحراك هو حراك شعبي أصيل ينبع من عمق معاناة أهل غزة وواقعهم المأساوي. أي أنّ ما يغيّر الواقع ويتحدّى الظلم هو الناس وإجماعهم على العمل المشترك. هذا ما ميّز يوم الأرض والانتفاضة الأولى وغيرها من الأحداث المحورية النضالية في تاريخنا.
على صعيد العالم العربي هناك انهيار كامل في مواقف الدول التي أصبحت جميعها تقريبا ترى في القضية الفلسطينية عائق، وبعضهم يلوم الفلسطينيين على مأساتهم ويدافع بشراسة عن جلّادهم. هذا الانهيار غير المسبوق في تاريخنا، يأتي على أنقاض انهيار الحركات القومية في العالم العربي، وبروز الصراعات الاقليمية والمحلّية التي تمزّقه. الإسلام السياسي الذي عرض نفسه كبديل للحركات القومية فشل فشلّا ذريعا في عرض حلول واضحة وفعالة. بل حوّل محور الصراع في المنطقة إلى صراع سني- شيعي لا تلعب به القضية الفلسطينية أي دور سوى أنّها تصرف النظر عنه. بل وأسوأ من ذلك، انبثقت عنه حركات إجرامية كالقاعدة وجبهة النصرة وداعش التي لا ترى قيمة للإنسان وحياته. هذا العمق العربي الذي طالما كان مهمّا للقضية الفلسطينية لم يعد موجودا، محقّقا بذلك حلما إسرائيليا قديما. لكن على الرغم من هذا أثبتت هذه الهبّة بأن القضية الفلسطينية ستبقى حتى وإن اختفى هذا العمق الاستراتيجي، لأنّها تستمدّ شرعيتها من شعبها ومن معاناته ونضاله على أرض الواقع.
وهناك القيادة الفلسطينية التي أعماها حبّها للسلطة وخذلت شعبها بشكل سافر وفقدت شرعية وجودها جملة وتفصيلًا. هذا أيضا حال حماس في غزة، لكن بشكل أقلّ، التي أيضا خذلت شعبها لأسباب عديدة، منها حبّها للسلطة من أجل السلطة، ومنها إيديولوجيتها الدينية السياسية التي تذهب أبعد بكثير من حدود القضية الفلسطينية. قد يكون هذا أكثر الجوانب المأساوية في ملحمة الشعب الفلسطيني, فبدل قيادة تستمد قوتها من عدالة قضيته، لتكون أكثر القيادات عزّة وعنفواناً، أنجبت القضية الفلسطينية سلطة الخنوع والتنسيق الأمني التي تصر على التمسك بعملية سلام زائف أثبتت فشلها وزال وقتها! ولكن على الرّغم من هاتين القيادتين قامت هذه الهبّة.
مع معطيات الوضع السياسي الفلسطيني والعربي والدولي المأساوية، هنا حالة مأساوية لا تقلّ فظاعة في هذه الأحداث، ألا وهي إسرائيل. فعلى الرّغم من آلتها الحربية الهائلة، ومؤسّسات الدولة المتقدّمة ومقومّات "المجتمع الحديث" التي تملكها، إلّا أنّها لا تعرف كيف تواجه متظاهرين عُزّلًا إلّا بفِرَق من قنّاصين، يقتلون كلّ من يسعهم قتله. هذا يشكّل وبوضوح منحًى جديدا وتعبيرا لا شكّ فيه لغوص إسرائيل في مرحلة الفاشية. هذه العملية التي ابتدأت منذ عشرين عاما تقريبا (منذ الإنتفاضة الثانية وأحداث عام 2000)، وأدّت إلى اختفاء "اليسار" الصهيوني الذي مثّل القيم الليبرالية في هذه الحركة، وإلى صعود اليمين الصهيوني المتديّن الذي يستقي مصداقيته من المصادر الدينية اليهودية واليمين الصهيوني العنصري الذي يمثّله أمثال نتنياهو وليبرمان، هذا اليمين الذي قرّر أن يحسم الصراع مع الفلسطينيين بالقوّة والبطش وإحلال نظام استيطاني دموي في المناطق المحتلّة، ويمارس تدميرا منهجيا للأسس القانونية للدولة التي يراها عراقيل أمام مخطّطاته، ليس فقط في الضفة وغزة وإنّما أيضا في داخل اسرائيل. هذا الانزلاق المجنون نحو الفاشية والعنصرية يقودنا جميعا نحو الهاوية. هذه هي بداية النهاية، وهي لا تأتي نتيجة للقوة السياسية للجانب العربي والفلسطيني بل بالعكس، فهي تأتي على الرّغم من ضعفه وخنوعه.
نحن ندخل مرحلة جديدة وخطرة، على قيادات الشعب الفلسطيني والقوى الديمقراطية الحقيقية في كل مكان، أن تكون حاضرة لها. إسرائيل التي قامت على أنقاض مجتمعنا أصبحت دولة فاشية، وهي ترفض أن تعترف بأيّ حقّ من حقوقنا كشعب له وجود شرعي، ولا تتردّد في استعمال أعنف الأساليب من أجل قمعنا. فهي تبني وبشكل منهجي نظام أبرتهايد عنصري أسوة بأسوأ الأنظمة العنصرية في التاريخ. وفي الحقيقة أنا لا أستبعد أن تحاول فيه تهجيرنا من جديد بحَملة تنظيف عرقي أسوة بما حدث في النكبة.
دور قيادتنا الفلسطينية في جميع أماكن وجودها وأطيافها الآن، هو الوقوف والتحدّي والتحضير لمواجهة أسوأ الإمكانيات والعمل لمنع حدوثها! الغمغمة والاحتراب في ما بينها على هذا الموقف أو ذاك يفقدان هذه القيادة مصداقيتها.
على نضالنا أن يكون شعبيا حقيقيا وإنّ ما يرشده هو إنسانيتنا، وحقّنا الأخلاقي والمبدئي كأصحاب الأرض الأصليين. هذا هو وجه هذه الهبّه وهذا هو وجه كلّ هبّاتنا التي وفّرت لنا إنجازات حقيقية.
لا أعرف إن كانت ستدوم شعلة هذه الصحوة أو تخبو قريبا. لكنّي أعرف أنّها ليست آخر الصحوات، فستظلّ هذه الصحوات قادمة موجة بعد موجة، وجيلًا بعد جيل، حتى تحطّم نيْر الظلم وتحقّق إنسانيتها وتنال حرّيتها المنشودة.
|
سليم زاروبي
|