قصة ووجهة نظر وجهة النظر: بصدد الطائفية
في الجزء الأول من هذا المقال رويت قصة حدثت معي حثّتني على الكتابة عن موضوع الطائفية، وهو موضوع يقلقني منذ نعومة أظفاري وبداية وعيي للحياة في السبعينات من القرن الماضي. لقد كانت أحداث تلك الفترة، وعلى رأسها يوم الأرض، هي الأساسية في تكوين شخصيتي السياسية والفكرية − مثل باقي أبناء جيلي من فلسطينيي الداخل. تشرّبت من خلالها مُثُل الإخاء والحرية وكرامة الإنسان والديمقراطية ومحبة الناس وتحدي الظلم وقدرة النضال، الذي يوحد الناس، على كسر شوكة أعتى الأنظمة. ملأتني هذه التجارب، وما زالت، بالأفكار التي ترى في الإنسان، كل إنسان، وحقه في العيش بحرية ورغد وسعادة وكرامة، قيمة عليا ما بعدها قيمة. تعلمت الكثير في تلك الفترة، ودخل قاموسي الفكري والسياسي أفكار ومصطلحات عديدة. لكن لعل ما لا يقل أهمية عن ذلك، هي الأفكار والمصطلحات التي علّمتني أن أرفضها وأستثنيها من مجمل تصوري ورؤيتي للعالم، وعلى رأسها مفهوم الطائفية. فقد كان الخطاب الطائفي الذي دار في خضمّ الحرب الأهلية في لبنان في حينه، مثلاً، غريبا تماما عني. رفضته، كأغلب الناس آنذاك، بكل جوارحي، ورأيت فيه ظاهرة غريبة استغلها الاستعمار ونمّاها (وإسرائيل كجزء لا يتجزأ منه) على مدى التاريخ وحتى الآن. في حينه لم أكن أتخيل، حتى في أحلك أحلامي، أن الخطاب الطائفي والديني سيصبح سيد الموقف في غضون عقد أو عقدين٠ أذكر هذا في مقدمة هذا الجزء من مقالي لهدفين، أولهما لأجزم برفضي القاطع والتام للخطاب الطائفي الذي أصبحت أراه أكثر غوغائيةً وخطراً مما كنت أراه في الماضي بكثير. والثاني هو لأعترف بأن فهمي السابق للطائفية كظاهرة دخيلة يغذيها الاستعمار فقط، هو فهم منقوص لا يفي الظاهرة حقها، فيهمل عواملها الذاتية العميقة. علي أن أنوّه هنا بأن هذا الموضوع ليس موضوع خبرتي، فأنا لست مؤرخا ولا عالماً سياسياً، وعليه، فاجتهادي هذا هو من باب مشاركتي للناس بما أفكر لعلّي أساهم، ولو بصورة متواضعة، بتطوير نقاش جدّي حول هذا الموضوع الهامّ والخطير٠ سأبدأ بالإشارة إلى حقيقة أساسية، قد يهملها الكثيرون عندما ينظرون إلى منطقتنا، وهي التعدّدية الدينية والطائفية (والإثنية) المذهلة في الشرق الأوسط. إذ هناك السنّة والشيعة، والعلويون، والإسماعيليون، والأحمديون، والدروز، والبهائيون، والسامريون، واليهود (قبل الحركة الصهيونية)، والطوائف المسيحية بأنواعها (خمس عشرة على الأقل بعضهم، كالسريانية، الكلدانية، القبطية والمارونية مثلا، لا توجد إلا في الشرق الأوسط)، والعديد العديد من الطوائف والمجموعات الدينية الصغيرة. لكل من هذه الطوائف قصتها وتاريخها الخاص المتفاعل مع تاريخ المنطقة وأحداثها٠ ما يميز هذه التعددية الرائعة أنها وليدة المكان، نشأت عبر تاريخنا العريق الممتدّ آلاف السنين، وتعايشت وتفاعلت بعضها مع بعض بنجاح نسبي. بعكس التعددية الطائفية في الغرب التي هي ظاهرة حديثة، أتت مع قدوم المهاجرين، "الاقتصاديين" بمعظمهم، الى دول الهجرة مثل أمريكا وكندا وأستراليا، على مدار قرن ونيّف. أمّا أوروبا التي مزقتها الحروب الدينية على مدار قرون عديدة، فلم تسمح تقريبا بأي وجود آخر إلّا لثلاث طوائف مسيحية (الأورثوذوكسية في الشرق والكاثوليكية والبروتستانتية في الغرب) وأقلية ضئيلة من اليهود. والهجرة إليها من شتّى أقطار العالم هي في الغالب ابنة العقود الأخيرة٠ إذاً، كيف نفهم الحفاظ على هذه التعددية المثيرة للإعجاب في الشرق الأوسط على مدى التاريخ؟ سوف أخضع تحليلي لهذا الموضوع لحكم الاستنباط المنطقي، من غير أن أدخل في التاريخ العيني لكل طائفة وفئة (الذي ليس مجال خبرتي بأية حال). مجرد حقيقة وجود هذه الطوائف وبقائها كل هذه العصور يوصلنا للاستنتاج المنطقي بأن لهذه التعددية طرفين. الأول هو الطائفة أو الفئة نفسها، حيث رأى أبناؤها أنها جزءٌ مهم من هويتهم وكيانهم ومحور حياتهم الدينية والاجتماعية، وفي كثير من الأحيان الاقتصادية والسياسية. هذا عدا أنّه غالبا ما تماثلت الهويات الطائفية مع القبلية والإثنية. في الوقت نفسه تَقَبّل أبناء هذه الطوائف حكم الدولة العربية الإسلامية، بل ورأوا أنفسهم جزءاً منها كحضارة وثقافة ولغة، ومنذ أواسط القرن التاسع عشر، كقومية٠ الطرف الثاني هو الحضارة العربية الإسلامية التي تعاملت منذ بداياتها، مع الأقليات الدينية الإسلامية وغير الإسلامية بتسامح وتقبّل، ورأت بها جزءاً عضويّا منها، ما مكّن هذه المجموعات من الحفاظ على هويتها الطائفية. بغض النظر عن أسباب هذا التسامح العديدة، فقد كان تسامحاً حقيقياً. على سبيل المثال يذكر ألبير حوراني في كتابه الشهير "تاريخ الشعوب العربية"، دراسة عن هويّة سكان الدولة الأموية الدينية إبان سقوطها، أي بعد حوالي 125 عاماً من الحكم الإسلامي. تقدّر هذه الدراسة بأن 90٪ من سكان سوريا، العراق، إيران، مصر وغيرها (باستثناء شبه الجزيرة العربية)، كانوا ما زالوا من غير المسلمين. وهي حقيقة مذهلة تشهد على هذا التسامح الرائع! هذا لا يعني أنه لم تكن ملاحقات وضغوطات على هذه الطوائف في فترات تاريخية معينة ومن قبل حكام مختلفين، فأنا لا أريد أن أُجَمِّل التاريخ، ولكنها كانت نسبيّاً معتدلة. أي نستطيع أن نقول من دون مبالغة، وعلى الرغم من الصعوبات التي لا بدّ منها، بأن الطوائف الدينية المتعددة في الشرق والحضارة السائدة قد تبَنّت بعضها بعضاً. فنحن جميعا، بغضّ النظر عن طوائفنا، أبناء الحضارة العربية الإسلامية٠ إذاً فالشعور بالانتماء إلى طائفة هو ليس بالضرورة أمراً سلبيّاً. وهو، إلى حدّ كبير، مرآة تعكس تعددية مجتمعنا. هذا لا يعني أن شعور الانتماء الطائفي كان دائماً إيجابياً. فهو أحياناً يطغى على جوانب الهوية الأخرى المتنوعة، ما أدى في عدد من الحالات إلى احتراب وقمع طائفيَّين. تعرّضت، على مدى التاريخ، العلاقات بين الطوائف المختلفة إلى امتحانات وفترات عصيبة، كما حدث مثلا، في عصر الانحطاط في الدولة العباسية، أو في فترة الصليبيين وردود الفعل عليها (كما في فترة الظاهر بيبرس)، أو مذبحتَيِ الأرمن والسريان على يد العثمانيين، أو في فترة التدخل الغربي وغيرها. ولكنها في فترات أخرى كادت أن تختفي من جوانب الهوية الجماعية، كما حدث مع نشوء الحركة القومية التي شددت على الانتماء القومي كمحور الانتماء الوحيد لشعوب ومجتمعات المنطقة٠ علينا أن لا نخلط بين الطائفية والدين السياسي، فهما ظاهرتان مختلفتان، بالرغم مما يظهر بينهما من ارتباط شديد أحياناً. على سبيل المثال، كان للحرب الأهلية في لبنان أبعاد طائفية واضحة في سنوات السبعين، لكنها لم تكن تمتّ بصلة إلى الدين السياسي. ومن ناحية أخرى مثلا، صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر لا يمتّ بأية صلة إلى الطائفية، إذ إن نسبة الأقليات الطائفية هناك صغيرة جدا. الانتماء الطائفي هو جزء من هوية معظم الناس بغض النظر عن مواقفهم وميولهم السياسية. أما الدين السياسي، بالرغم من مرجعيته الدينية، فهو في الأساس رؤية سياسية ترى، بشكل عام، بأن حل مشاكل المجتمع جميعها تأتي من خلال التأويل السياسي والقانوني للدين٠ كان أول مظهر واضح لصعود الدين السياسي الحديث هو الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات، وتلاه حضور جَلِيّ وقويّ في كل بلدان الشرق الأوسط. بغضّ النظر عن أسباب هذا الصعود وهي كثيرة، فقد أدى بالضرورة إلى استقطاب طائفي شديد، لأنه بطبيعته يستثني أبناء الطوائف الأخرى، حتى ولو كانوا من مذاهب الدين نفسه، من الحق في ممارسة دورهم الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي، وفي حالات متطرفة حتى من الحق في الوجود. هذا التفاعل الهدّام أدى أيضاً إلى ارتفاع حادّ في مظاهر الطائفية العمياء والتديّن المتزمّت٠ الانتماء الطائفي (والديني) أعمق بكثير من الدين السياسي. لأن الأحزاب السياسية، مهما كانت طبيعتها، تخضع لامتحان أرض الواقع. فإذا فشل الدين السياسي في تحقيق العيش الرغيد وحل مشاكل المجتمع السياسية والاقتصادية يكون مصيره الفشل والانحسار، ولو استغرقه بعض الوقت. هذا برأيي هو مصير الدين السياسي أينما كان، فهو لا يملك الأدوات للنهوض بالمجتمع ومواجهة التحديات التي تواجهه (السودان هو المثال الأوضح لذلك). فما بالك إذا كان طرحه يتلخص برفضه الحداثة جملة، وتفصيلاً، وبدعوته للرجوع إلى الوراء لعدة قرون. أمّا الانتماء الطائفي فهو، حتى وإن كان هامشيّاً أحياناً، جزء أساسي من هوية أغلب الناس٠ الاستقطاب الذي ذكرته، أدّى إلى صعود الطائفية المعاصرة التي هي شكل متطرِّف للانتماء الطائفي. وهي بجوهرها تلغي، أو على الأقل تهمّش، أي جانب آخر من هويتنا. لأنك تكون إمّا سنِّياً، أو شيعياً، أو درزياً أو مسيحياً ... لا غير! بحسبها ليس لديك أي انتماء أو مركّب آخر في كيانك، فكل انتماءاتك الأخرى (الثقافية، الحضارية، الاجتماعية، وغيرها) هي إمّا مجرد امتداد لانتمائك الطائفي أو، في أحسن الأحوال، مستقلة عنه لكنها هامشية. فطائفتك هي كل ما هناك. باختصار، هي تجرّدك من وجودك كإنسان لتختزلك إلى "ابن طائفة". فالطائفية، بهذا المفهوم، هي كالتي تقف أمام لوحة غنية التفاصيل والألوان، متوقّدة بالحياة، شكّلتها ضربات فرشاة متفاعلة، تتعاون وتكمّل بعضها بعضا، فتصفها بأنها حمراء لا غير، لمجرد وجود اللون الأحمر من بين مئات الألوان والأطياف المستعملة بها. هذا هو جوهر العمى الطائفي٠ ثم تذهب الطائفية أبعد من ذلك بكثير، وهنا خطرها الأساسي. فهي لا تكتفي بأن تهمل كل أوجه هويتنا الأخرى، بل إنها تعطي لنفسها وزناً قِيمِيّاً أسمى من غيرها من الطوائف والفِرَق. الطائفي منا هو من يعتقد بأنه وأبناء طائفته ودينه أرقى وأفضل من غيرهم. وهو لا يرى في الطوائف الأخرى سوى انحطاطها القيميّ، ما يخوّل له الاستعلاء عليها. فهو بهذا يرفض تفهّم واحترام الآخر لأنه كابن دين أو طائفة أخرى ذو موقع منحطّ، ولا يملك الحق في أن يُفهم ويُحترم٠ بل إن الأمر أخطر من ذلك! إذا برّرتَ تفوق ديانتك أو طائفتك على الطوائف الأخرى، فما الذي يمنع إذاً أبناء الأديان والطوائف الأخرى من أن يعتقدوا بأنهم يتفوقون عليك، لمجرد أنهم أبناء طائفة أخرى؟ مثلاً، ماذا يمنع اليهودي من الاستعلاء على المسيحي إذا كان المسيحي يرى مناسبا أن يستعلي على المسلم؟ علينا إدراك هزال، ضحالة وخطورة هذه الرؤية. من يقبلها يصبح عبدها ورهين قيودها. بقبول حكمها نخسر قيمتنا الأخلاقية ونصبح أحطّ من الآخر الذي نرفضه ونستعلي عليه! باختصار، ومن غير مبالغة، الطائفيّ منا (بمعنى الطائفية الذي ذكرته) هو من تجرّد من إنسانيته! هذا ما علينا أن نحاربه بكل ما أوتينا من قوة. أولاً أن نرفض اختزال وجودنا إلى مجرد وجود طائفي وديني. ثانياً والأهم، أن نتمرد على تجريد الآخر ،ابن الطائفة أو الدين المختلف، من قيمته كإنسان لمجرد أنه وُلِد لواقع ديني مختلف، إذ لم يختر أيّ منّا لأيّ دين أو طائفة وُلِد. لأنه عندما نجرّد الآخر من إنسانيته نجرد بالتالي أنفسنا منها أيضاً٠ نستطيع أن نجزم، عند قراءة تاريخنا، بأن فترات النهضة والتطور والتفاؤل، ارتبطت بمزاج وجوّ من التسامح والترابط بين جميع أبناء حضارتنا وانحسار الهوية الطائفية. أما فترات التراجع والانحسار الحضاري والثقافي فقد تزامنت مع أجواء التعصب الطائفي والديني وقِلّة التسامح وعدم الانفتاح. فالتسامح والانفتاح هما دلائل القوة والثقة بالنفس والطموح إلى اعتلاء القمم الفكرية والانسانية. أمّا التعصّب والانغلاق، فهما شِيَم الضعف والوهن والانحسار الحضاري وتعظيم الممنوع وإضاعة البوصلة وقمع الآمال٠ لقد اختطف حضارتنا دعاة الظلام وغربان الخوف، واستولى علينا جنون الطائفية والتديّن الأعمى. وهم يهوُون بنا إلى غياهب الجهل وسراديب القنوط ومستنقعات الكراهية. واجبنا جميعاً تحدّيهم وإيقافهم. لا بِأن نتقوقع كلٌّ حسب طائفته، بل بأن نعمل سويّة لنستعيد حقّنا في حضارتنا ووجهها النيِّر المتسامح والمنفتح. من أجل تاريخنا، من أجل إنسانيتنا، من أجل الحفاظ على تعدديتنا الرائعة ... والأهم من هذا كله، من أجل مستقبلنا. فاليوم لا مكان للحياد، فإمّا الأمل والحياة وإمّا اليأس والاندثار٠ قصة ووجهة نظر - الجزء الأول القصّه: هل أنت مسلم أم مسيحي؟ 'أتسمح لي بسؤال: هل أنت مسلم أم مسيحي؟' سألني بالعبرية الرجل الذي كان جالسا بجانبي. كنت قد أنتهيت للتّو من مكالمة هاتفية مع زوجتي لأخبرها بأني على وشك ركوب الطائرة التي تقلني إلى هولندا من مطار اللد. نظرت إلى هذا الرجل مندهشا، فهذا السؤال كثيرا ما يسأله ناطقو العبريّه ولكنها المرة الأولى التي يسألني بها أحدهم قبل تبادل أي حديث. وبسرعة كبيره تحوّل إندهاشي إلى شعورٍ بالإهانة، فغضب واضح! من هذا الذي يجرؤ على سؤالي مثل هذا السؤال من غير مقدمات؟ رفعت رأسي لأرى من هو، فإذا به رجل في أوائل الأربعينات من عمره كان قد جلس بجانبي، وأنا أتحدث مع زوجتي من غير أن أنتبه٠ لماذا أغضبني هذا السؤال، قد تَعْجَب؟ فالناس عادة يسأل بعضهم بعضاً مثل هذه الأسئلة، ما الضير بذلك؟ صحيح، هذا سؤال شرعي بين شخصين بينهما معرفة وحديث (ولو عابران) يأتي لإرضاء فضولهما أو تعميق معرفة أحدهما للآخر، لا أكثر. أما عندما يُسأل هذا السؤال لكي يغذي سائِلُه آراءه المسبقة ويضعك في حيّز معين يحدد منه كيف يتعامل معك ويتحدث إليك، فالسؤال عندها غير شرعيٍّ بل حتى كثيرا ما يكون عنصريّا. قد يكون منطلق هذا الرجل من سؤاله مختلفاً لكني في تلك اللحظة لم أرَ فيه إلّا منحاه الأسوأ٠ لقد نلت حظي من هذا السؤال مرات كثيرة من إسرائيليين لقيتهم مصادفة، وخاصة في سفراتي العديدة من مكان سكني خارج البلاد لزيارة أهلي وأصدقائي في الناصرة، ففي الطائرة لا تختار بجانب من تجلس. كنت في البدايه أحاول التغاضي عن هذا السؤال لأن انتمائي الطائفي لا يشكل جزءاً من هويتي. لكنه سرعان ما تحول إلى موضوع تسلية، فأحيانا يفترض الجالس بجانبي بأني مسلم وأحيانا أخرى مسيحي، وحتى أحيانا،عندما ينظر إلى ما أقرأه أو أكتبه على حاسوبي, يفترض بأني أجنبي فيعاملني وفقا لذلك، وأنا لا أصحح فرضيته. كشفت لي هذه التجارب مدى تأصّل التفكير المسبق والعنصري في ذهن الإسرائيلي المتوسط. مهما كانت فرضيته، ففي أحسن الأحوال (أي عندما يكون الشخص "يساريا") يُظهر جهله التام لواقعك، كأنه يعيش في واقع موازٍ لا يلتقي مع واقعك كفلسطيني −بالرغم من أن الحديث معه قد يكون ممتعاً. وفي أسوأ الأحوال تطفح عنصريته السافرة من كل جملة يقول، أو لا يقول٠ ولكن وبعد أكثر من عشرين عاما على مثل هذه التجارب، أصبحت في الفترة الأخيرة أرفض الإجابة عن هذا السؤال، جملة وتفصيلا. فقد تعبت من خطاب الهوية الدينية لدرجة أني لم أعد أتمتع حتى بالسخرية منه. عندها أكتشفت أنّ هذا هو أفضل خيار. فهو يبلبل سائلي حتى الصميم، لأن من يصنف البشر كقطيع طوائف ومذاهب، لا يوجد حيّز في عالمه لمن يرفض هذا التصنيف! الشخص الذي لا يرى منك إلا جانبك الطائفي هو في الحقيقة ليس ذا تفكير مشوه وحسب، بل هو أيضا مسكين، لأنه رهين أرائه المسبقة وفكره الطائفي، يصنف الناس هكذا لأنه هو نفسه يفكر كفرد من قطيع، لا كشخص حرّ يقيّم نفسه كأنسان. وهو يرمي الناس بدائه، غالبا، من غير أن يدرك ذلك٠ أستطرد هنا بقصة تحضرني حدثت معي ومع عائلتي عندما انتقلنا من مدينة ميونيخ في ألمانيا، بعد أن عشنا بها خمس سنوات إلى مدينة خروننغن في هولندا. أذكرها هنا كمثال لتصرف مغاير. توقفنا في إحدى المدن في وسط ألمانيا لنقضي ليلتنا في فندق صغير كنت قد حجزت به غرفة عبر الإنترنت. إستقبلتنا موظفة الفندق التي تحدثنا معها بطبيعة الحال بالإنجليزية، وهي لغة مهنتي، أستعملها أكثر حتى من اللغة العربية، وإضافة إلى ذلك فقد سمعتنا نتحدث أنا وزوجتي باللغة العربية. ثم طلبت منا جوازات سفرنا فأعطيناها، لدهشتها، جوازاتنا الإسرائيلية، فنحن أبناء من بقي من الفلسطينيين في أرضه بعد النكبة. ثم طلبت مني أن أكتب عنواني، فأعطيتها عنوان بيتنا الذي كنا قد استأجرناه قبل بضعة أسابيع في هولندا، فازدادت حيرة. وفي النهاية طلبت منها فتح باب موقف السيارات لأضع سيارتي فيه، فرأيت فمها يفتح من الدهشة عندما رأت سيارتي التي تحمل لوحة ترخيص ألمانية من مدينة ميونيخ. بالرغم من كل علامات البلبلة والحيرة البادية على وجه هذه المرأة فهي لم تسأل سؤالا واحدا عنا، بل احترمت خصوصيتنا وعاملتنا بالاحترام والرسمية التي تعامل بها كل زبائن الفندق. علي أن أنوّه أننا أيضا أنا وزوجتي تنبهنا عندها فقط بأن واقعنا يحمل كل هذا التعقيد. بعكس سائلي الإسرائيلي، لم تسألنا هذه المرأة عن أصلنا وفصلنا ولا عن ديننا أو طائفتنا، بل إحترمتنا كبشر. هذا لا يعني أنها لم تكن تود أن تسأل ولكنها، أو هكذا أتخيل، لم ترد أن تمس بمشاعرنا أو أن تشعرنا بأنها تتطفل على خصوصياتنا إذا ما سألتنا. بالطبع أُسأل كثيرا عن أصلي في الغرب، ولكن دائما يأتي هذا في سياق حديث وبشكل طبيعي غير مبتذل أو مغرض، فلا أشعر بحرج أو غضب منه٠ لنعد إلى سائلي! أجبته بهدوء، ولكن بصوت صارم ولهجة جافة وملامح امتعاضي واستيائي بادية على محياي قائلا: 'أنا لا أجيب عن مثل هذا السؤال!' فصمت مندهشا لا يعرف ما يقول. واسترسلت مضيفا: "بأي حق تسأل مثل هذا السؤال وأنت لا تعرفني ولا أعرفك؟ هل تقبل أن أسألك هل أنت يهودي شرقي أم غربي، هل أنت يمني أم بولندي، قبل أن أتبادل معك أي كلمة؟" وعند كل جملة أقولها يزداد إحساسي بالاستياء منه، وسلطة صاحب الحق جليّة في نبرة صوتي، ودهشته من ردة فعلي آخذة بالازدياد. أكملت حملتي على سؤاله والمنطق من ورائه، "ثم ماذا يفيدك أن تعرف ديني؟ هل سيحدد هذا كيف تتعامل معي؟ أم سيغذي جوابي آراءك المسبقة؟ هل ستقرر عندها بأني عربي جيد أم سيّئ؟"، والرجل لا يعرف ما يقول غير أن يتمتم معتذرا. ولكني لم أحجم عن الاستمرار في هجومي بالرغم من اعتذاراته المتكررة قائلاً "أنتم لا تتوقفون فقط عند العرب بهذه التصنيفات المريضة، بل تستعملونها لتصنّفوا بعضكم بعضاً! هذه التصنيفات هي مشكلتكم، وأرفض أن أتبناها كمشكلتي! وإذا لم تكن تعرف أن تتوجه إلي كإنسان فالأفضل أن تبقى صامتاً". من الواضح أن حدّة إجابتي لم تكن فقط للرد على هذا الرجل، فقد أدركت بعد هذا الحدث، أني كنت من خلال هذا أتألم لتاريخنا. فغضبي سببه الإجحاف، الإهانة، وفوق كل شيء التشويه الذي فرض علي وعلى شعبي. كنت أصرخ، من غير أن أدري، في وجه العنصرية، الطائفية، والاستعلاء الأعمى الذي نعاني منه أينما نكون. كنت أعلن تمردي على من يريد أن يصنّفني كفرد من قطيع، وعلى من يريد أن يجرّدني من غِنى هويتي وشخصيتي ليرى مَنْحًى واحدا منها، وعلى من يتجاهل زخم حضارتي وثقافتي ويفتّت تاريخي إلى شذرات تافهة ليس لها أهمية، وعلى من يتعامى عن طيف ألواني ليختزلني إلى لون واحد. قد يكون هذا الرجل الذي سألني بريئاً من كل هذا، ونواياه أفضل مما تخيلت بكثير، لكن "الطريق إلى جهنم مرصوف بالنوايا الحسنة"٠ بعد أن صببت جام تمرّدي على رأس سائلي المسكين، حدث ما لم أتوقعه! فبدل أن يتمتم اعتذارات أخرى ويتركني، لا بل يتجنّبني، خلال السفرة حتى يذهب كل منا في طريقه، فعل هذا الرجل عكس ذلك! فبعد أن إعتذر، سكت برهة، ثم توجّه إليّ بصوت واضح وصريح قائلا: "معك حقّ، أنا لم أفكر في هذا من قبل، ولكنك على حق!"، فخفّ شعوري بالغضب، ولكن بقي شعور الإهانة بالرغم من محاولته التي بدت صادقة بالاعتذار. في الطائرة كان مقعدي قريباً من مقعده، وتبادلنا خلال الرحلة بعض الحديث، فسألني عن مهنتي وحدّثني عن مهنته (بيولوجي يعمل في حقل تطوير أدوية للسرطان). وفي نهاية الرحلة سألني عن اسمي فأعطيته اسمي الأول. وافترقنا وما زال استيائي الشرعي يلازمني، بالرغم من تبادل الحديث. بعد عدة أيام إذا به يرسل إلي رسالة اعتذار بعد أن فتش عني بالإنترنت. ما أعجبني أن هذا الرجل حاول أن يتعلم من هذا الحدث ويستخلص عِبرا، فقد دفعه احتجاجي على سؤاله إلى التفكير وإعادة النظر في فرضياته، وهذا نادراً ما يحدث. فقليل منا يجرؤ أن ينظر في المرآة ليواجه عوراته٠ بعد برهة من إقلاع الطائرة خلدت لأفكاري، فراودني في البداية شعور بالإكتفاء، ولم لا، ألم أوقف هذا الرجل عند حدّه؟ ألم أفحمه بالحجّة القاطعة؟ ألم أضطرّه إلى أن يعيد التفكير في منطلقاته؟ ولكن بدأت غيوم التشاؤم تجول في ذهني، ما يدريني إذا وصل إلى الاستنتاجات العميقة المتحتمة عليه، أو أن ما تَعَلَّمه من هذه التجربة هو أن يكون حذرا أكثر في ما يقول من غير أن يغير تفكيره! وحتى إذا غيرّ تفكيره فهو شخص واحد فقط، الأغلبية الساحقة ستبقى كما هي، سائرة قدما بثقة إلى براثن الفاشية التي ستحرقنا وإياهم! ثم عبرت بأفكاري غيمة أخرى أشدُّ سواداً من سابقتها. كيف أحاسب هذا الرجل على سؤاله عندما يكون هذا هو السؤال الأول الذي يسأله أبناء مجتمعي. ألم نعد نرى أنفسنا إلا كمسلمين ومسيحيين؟ كسنّة وشيعة؟ ألم نسمح لأدياننا بأن تجردنا من إنسانيتنا؟ ألم يحرق يسارنا علمانيته على مذبحة الفوائد الآنيّة وضيق الأفق؟ ألم تخنق قبليّتنا فرديّتنا؟ ألم يَئِد وهمُ الشرف خير نسائنا؟ بأي حق أهاجم هذا الرجل؟ أغرقتني هذه الأفكار لبرهة في بحر من التشاؤم والإحباط، وأدركت حينها بأن هذا هوالسبب الأعمق لحدة إجابتي، لأني كنت أحتجّ على قبول أبناء شعبي لهذا المنطق والتماهي مع منطلقاته٠ بعد لحظة، تبسمت ساخرا من تفكيري الذي أوقعني في مطب التعميم القبليّ الذي كنت قد اعترضت عليه أمام سائلي الإسرائيلي. أنا لست الوحيد من أبناء مجتمعي الذي يرفض فرضيات الطائفية ولا يتقبل لغتها، فمثلي كثيرون، ألاقيهم في كل مكان. منهم من يعي خطرها ويفهم أبعادها بعمق، ومنهم من رفضها بفطرته وبحسن بديهته. هناك أيضا الكثيرون الذين وقعوا في براثنها نتيجة الضغط الاجتماعي السائد، أكثرهم كانوا حتما سينبذونها إذا ما فكروا بمخاطرها. لكن هذا لن يحدث إذا تقاعسنا عن مواجهتهم بوضوح وصراحة، إذا لم نضع نصب أعينهم مرآة نفضح بها عورة الطائفية وأخطارها. فحتما سيجد مجتمعنا وحضارتنا مخرجا من براثن الطائفية والتعصب من خلال هذه المواجهة، كما فعل مرات عديدة في الماضي. هذا لن يكون سهلا، بالذات في هذه المرحلة السوداء، فنحن نسبح ضد التيار. ولكني على يقين بأنّا، إذا واجهناه، فسيغيّر التيار اتجاهه لا محالة٠ يتبع بالجزء الثاني حزيران ٢٠١٦، خروننجن هولندا يحتفل العالم هذا الشهر بالذكرى المئة لأحد أعظم إنجازات الجنس البشري الفكرية والعلمية: النظرية النسبية العامة لأينشتاين. نشر أينشتاين أول مقال من أربعةٍ حول هذه النظرية في ٤ نوفمبر ١٩١٥، بعد سنين طويلة من العمل الدؤوب، للتوفيق بين قوة الجاذبية وبين أفكاره حول الفراغ والزمن (سأستعمل في باقي المقال مصطلح الزمكان)، التي طورها قبل عشر سنوات في عام ١٩٠٥، والمعروفة بالنظرية النسبية الخاصة. قد تكون النظرية النسبية العامة أعظم إنجاز لعقل إنسان واحد على مدى التاريخ البشري. ففيها قلب أينشتاين مفاهيمنا الأساسية عن الفيزياء والهندسة، وأظهر أن بينهما علاقة عضوية حميمة لم يتخيلها أحد من قبل: فالمادة والطاقة تحددان صفات الزمكان، والزمكان يحدد كيف تتحرك المادة. اليوم فقط، وبعد مئة سنة من هذه النظرية، نفهم عمق تأثيرها وأبعادها التي كانت ستفاجئ، وربما تقلق، أينشتاين نفسه لو ظل حياً حتى اليوم٠ شهد القرن العشرون في بدايته ثورتين في الفيزياء أدتا إلى نشوء نظريتين هما حجرا الأساس في الفيزياء الحديثة. النظرية الأولى، والتي تُعرف باسم نظرية الكم ، تصف تصرف المادة في الأبعاد الصغيرة جدا، كمبنى الذرّة. طوَّر هذه النظرية عدد كبير من العلماء، بضمنهم أينشتاين نفسه، بهدف تفسير العديد من الظواهر الذرّية وغيرها، التي لم تجد تفسيرها في قوانين الفيزياء المعروفة في حينه. أما النظرية الثانية، والتي تبحث في تصرف المادة على أبعاد كبيرة جدا، وتُعرَف بالنظرية النسبية العامة، فقد طورها شخص واحد، أينشتاين، ومن دون أي دافع تجريبي أو رصدي يحثه على اقتراح نظرية جديدة، بل أتى بها نتيجة طرحه لأسئلة عميقة حول العلاقة بين مفاهيم فيزيائية معروفة جيدا: قوة الجاذبية والزمكان٠ إنجاز أينشتاين الفكري فريد من نوعه، فعمق نظريته الفيزيائي وجمالها الرياضي (من رياضيات) غير مسبوقين في تاريخ العلوم الحديثة. نقطة الانطلاق لهذه النظرية أتت من فكرة خطرت لأينشتاين في عام ١٩٠٧، وصفها بأنها "أسعد فكرة في حياته". وتلك الفكرة، التي واتته عندما كان يجلس في مكتبه ورأى من نافذته عمالا يعملون على سطح المبنى المقابل، هي أن الأجسام خلال سقوطها تكون في حالة انعدام الوزن. أي أن انعدام الوزن مكافئ للسقوط الحر، كما هي الحال عند رواد الفضاء، فهم يتحركون تحت تأثير الجاذبية عند دورانهم حول الأرض. تمخّض عن هذه الفكرة أحد المبدأين الأساسيين في نظريته والمعروف بـ"مبدأ التكافؤ"-− المبدأ الآخر في نظريته هو مبدأ النسبية الذي استعمله أيضا في وضعه للنظرية النسبية الخاصة. هذه الفكرة الصغيرة التي توصل إليها بخياله الجامح وفكره الوقاد أدّت الى انقلاب كامل في الفيزياء وفهمها للطبيعة٠ يذكر أن أينشتاين أكمل نظريته وهو يعمل في جامعة برلين خلال سنوات الحرب العالمية الأولى. عارض أينشتاين هذه الحرب بشدة في وقت كان فيه الشعور القومي الألماني في أوجه − كما كانت الحال في الدول الأوروبية الأخرى في حينه. اعتبر أينشتاين هذه الحرب فشلا للانسانيه وتحدّى مجتمعه قاطبة برفضه دعم الحرب, متحملا اتهام بعضهم له بالخيانة. فهذا الموقف يبين منزلة أينشتاين الإنسانية لا العلمية فقط. لكي يحصل القارئ على فكرة مبسطة حول العلاقة بين الجاذبية وهندسة الزمكان في النظرية النسبية العامة سنلجأ إلى الإستعارة التالية. تخيل سريراً مرتباً مغطّاً بشرشف ممدود بشكل مهندم على وجهه. سطح هذا الشرشف المستوي هو كهندسة الفراغ المستوية. فكر الآن بماذا يحدث إذا وضعت بعض الكرات الصغيرة ذات أوزان مختلفة بشكل متفرق على سطح الشرشف. ستُغيِّر هذه الكرات من طبيعة سطح الشرشف حيث إنها ستكوِّن تجويفات حولها، بحيث تُحدِث الكرات الثقيله تجويفات أعمق مقارنة بالكرات الخفيفة. هذا يشبه ما يحدث في النظرية النسبية العامة، فوجود المادة يُنتج إنحناءات وتجويفات في هندسة الفراغ تماما كما تفعل الكرات التي وضعناها على وجه الشرشف المهندم. وبالمقابل، إذا دحرجنا كرة صغيرة جدا على سطح الشرشف المتعرج فإنها لن تسير بخط مستقيم، بل ستتبع الانحناءات والتجوفات عليه، تماما كما تؤثرهندسة الزمكان في حركة الأجسام٠ تَنَبَأَ أينشتاين، على أساس هذا التغيير الجذري في طبيعة هندسة الفراغ نتيجة لوجود المادة والجاذبية، بأن الشمس ستؤدي إلى انحراف في مسار الضوء الآتي من نجوم بعيدة خاصة حين يمرالضوء بقربها، كما يبين الرسم. فإذا افترضنا مثلا بأن هنالك نجماً يقع خلف الشمس بالنسبة للأرض، فبحسب النظرية النسبية العامة سوف نراه يظهر من خلفها، نتيجة لحركتها على صفحة السماء، قبل ما نتوقعه وذلك نتيجة للانحاء الذي تُحدثُه الشمس في مسار ضوئه. مبدئيا، من الممكن فحص انحناء ضوء النجوم بواسطة الشمس بسهولة، إذ تحجب الشمس خلال سيرها في صفحة السماء الكثير من النجوم يوميا. نستطيع فحص زمن ظهورهذه النجوم التي كانت محجوبة وراء الشمس لنحدد هل كان مسار ضوء هذه النجوم مستقيما أم منحنيا. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، فضوء الشمس نفسها يطغى على ضوء هذه النجوم ويمنعنا من رؤيتها (لهذا السبب نفسه لا نرى نجوما خلال النهار). لهذا اقترح أينشتاين أن يتم القيام بهذه التجربه خلال الحدث الوحيد الذي يحجب ضوء الشمس عن الأرض في وضح النهار، أي خلال كسوف الشمس. وبالفعل قاد عالم الفلك البريطاني الشهير أرثور إدينچتون بعثة إلى جزيرة برنسيب قرب الساحل الشرقي الأفريقي لقياس ظهور النجوم من خلف الشمس، خلال كسوفها مؤكدةً صحة تنبؤات النظرية النسبية العامة٠ انتشرت نتيجة هذه التجربة في الأوساط العلمية والشعبية كانتشار النار في الهشيم. وأصبح أينشتاين بين ليلة وضحاها أشهر عالم على وجه الأرض، تزين صورته الصفحات الرئيسية لأهم الصحف في العالم. كما وخصصت هذه الصحف العديد من صفحاتها في محاولة لشرح هذه النظرية لقرائها لكن دون جدوى، فشرح النظرية النسبية العامة ببساطة كان وما زال أمراً صعباً جداً. ومن القصص الطريفة التي يجدر ذكرها أن أحدهم توجه لأرثور إدينچتون في عام ١٩١٩ قائلا: "بروفسور إدينچتون، لا بد أنك واحد من ثلاثة أشخاص في العالم الذين يفهمون النظرية النسبية العامة"، وعندما تأخر إدينچتون في الرد عليه قال له الرجل "لا تكن متواضعا بروفسور إدينچتون"، فعندها أجابه إدينچتون "على العكس، فأنا فقط أحاول أن أفكر من هو الشخص الثالث" (أي أن أينشتاين وهوفقط في كل العالم يفهمان هذه النظرية)٠ شهد أينشتاين خلال حياته عددا من النجاحات الكبيرة لنظريته، كتنبئه بالتغيير الطفيف في حركة الكوكب السيار عطارد نتيجة قربه من الشمس بحوالي درجة واحدة كل مئة قرن. لكن أهم هذه النجاحات هو تنبؤ النظرية النسبية العامة بانتشار الكون، ولهذا الموضوع قصة مثيرة للاهتمام. لقد أدرك أينشتاين بأن الجاذبية لن تسمح للكون بأن يكون ساكنا، فهي قوة تؤدي دائما لجذب المادة بعضها لبعض (لا يمكن إلغاء قوة الجاذبية)، مما ينتج عن كون دائم التغير. هذه النتيجة لم تعجب أينشتاين من منطلقات فلسفية، فقد اعتقد بأن كونا "أزليا" يجب أن يكون ساكناً. لهذا أضاف أينشتاين، لمعادلات النظرية النسبية العامة التي تصف الكون، حداً ثابتاً جديداً يؤدي لقوة تنافر تلغي تأثير الجاذبية، وسمّى هذا الحد بالثابت الكوني. وحين أرسل له العالم الروسي الكسندر فريدمان مقالا حول انتشار الكون، أهمله أينشتاين ووصفه بأنه مجرد تمرين في الرياضيات (أي بدون عواقب فيزيائية). طبعا كان أينشتاين مخطئا، ففي عام ١٩٢٩ نشر عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل نتائجه حول حركة المجرات التي بينت، بما أصبح يعرف بقانون هابل، أن الكون هو فعلا في حالة انتشار، بالضبط كما تنبأ فريدمان. هذا مثال آخر عن مفاجأة الطبيعة لنا دائما وتبيين أن الآراء المسبقة كثيرا ما تكون مرشد ضلال، حتى لأعظم العلماء. بعد هذا الاكتشاف، اعترف أينشتاين بخطئه ووصف الثابت الكوني بانه أكبر خطأ في حياته٠ في السنوات التي مرت منذ وفاة أينشاين في عام ١٩٥٥، أصبحنا ندرك تدريجيا مدى أهمية نظريته وأبعادها. فهي تتنبأ بوجود ثقوب سوداء لا تسمح حتى للضوء بالهروب منها، تتكون عندما تموت النجوم الكبيرة، وتؤدي خلال تكونها إلى انفجار هائل لطبقات النجم الخارجية يسمى بانفجار السوبرنوڤا. تزن هذه الثقوب السوداء أضعاف كتلة الشمس على الأقل. بل وأكثر من ذلك، فنحن نعرف اليوم بأن هنالك ثقوبا سوداء عملاقة، تكونت بعد نشوء الكون بقليل، تقطن في مركز المجرات، تتراوح كتلتها بين مليون الى عدة مليارات مرة كتلة الشمس (الثقب الأسود في مركز مجرتنا يزن حوالي ٤ ملايين كتلة شمسنا). وهذه الأجسام غريبة جدا، حتى كدنا نحسب بأنه قد اختلط الزمان بالمكان والخيال بالواقع على العلماء الذين يدرسونها٠ أصبحنا أيضا نرى كيف تُركِّز عناقيد المجرات التي تحوي آلاف المجرات الضوء الآتي من خلفها، كما تركز العدسات الزجاجية الضوء، مكونةً عدة صور للأجسام نفسها. يستخدم فيزيائيو الفلك هذه الظاهرة، التي تعرف باسم العدسة الجاذبية ، لقياس وزن عناقيد المجرات ليستنتجوا أن كمية المادة المسؤولة عن العدسة الجاذبية هي أكبر بكثير مما نراه في المجرات والأجسام المضيئة. هذه المادة غير المرئية، والتي تختلف جوهريا عن المادة التي تكون العناصر الكيميائية المألوفة للبشر، تسمى بالمادة المعتمة٠ ولعل أهم نتيجة لنظرية أينشتاين هي أننا نعرف اليوم، بفضلها، مكونات الكون بدقة كبيرة. فنحن نعرف بأن المادة العادية التي منها صُنع كل شيء حولنا تكِّون فقط حوالي ٥٪ من الكون، وحوالي ال ٢٥٪ منه هي مادة معتمة لا نعرف ما هي ولكننا نعرف صفاتها. وأما ال٧٠٪ الباقية من الكون فهي على شكل طاقة معتمة، لا نعرف عنها الكثير سوى أنها تدفع الكون للتسارع بالانتشار، كما يفعل الثابت الكوني الذي اقترحه أينشتاين وذكرناه سابقا (فهو في نهاية المطاف لم يكن مخطئأ تماما). هذا يتركنا في وضع غريب، فنحن نعرف بالضبط كم من المادة والطاقة يوجد في الكون، ولكننا لا نعرف ماهية ٩٥٪ من هذه المكونات (هذا لا يعني أننا لن نعرفها مستقبلا). تمكننا هذه النظرية أيضا من أن نعرف تاريخ الكون وماذا حدث له في مراحله المختلفة، منذ بدايته وحتى الآن. فأجمل وأعمق ما تمخضت عنه النظرية النسبية العامة، هو أنه بفضل أينشتاين ولأول مرة في تاريخنا كبشر، نحن نفهم علميا قصة كوننا٠ هنالك الكثير من الاستعمالات العملية لنظريات أينشتاين مثل استعمال نظام التموضع العالمي، الذي يمكننا من الملاحة والتموضع بواسطة الأقمار الصناعية. لكن أهم إنجازاته هي الإنجازات الفكرية التي تمكننا من فهم كوننا وواقعنا الموضوعي بعمق. كان أينشتاين مبدعاً في طرح أسئلة جمعت بين العلم والفلسفة. فقد توخى دائما في أبحاثه بأن يجيب على أسئلة عميقة، وتميزت إجاباته دائما بأناقتها وجمالها، ولكن في الوقت نفسه أيضا، بجموح خيالها وتحديها للفرضيات المسبقة والأفكار المقبولة. فحتى عندما أخطأ في اعتراضه على نظرية معينة يحملها أقرانه، أضاف لتلك النظرية الكثير، بمجرد طرحه أسئلة عميقة حولها أجبَرَتهم على التعمق أكثر في فهمهم لنظريتهم. أنهي مقالي هذا باقتباس من خطاب قصير لجورج برنارد شو ألقاه على شرف أينشتاين عام ١٩٣٠، قال فيه (وسأقتبس هنا بتصرف للإيجاز): ""نابليون ورجال عظماء مثله بنوا إمبراطوريات. ولكن أينشتاين وأمثاله فعلوا أكثر من ذلك, فهم لم يبنوا إمبراطوريات بل صنعوا أكوانا كاملة، وهذا من غير أن يُسيلوا قطرة واحدة من دم إخوانهم البشر". فأينشتاين هو ليس فقط عالم الفيزياء الكبير، بل هو الرجل الذي تحدى مجتمعه ليعارض الحرب، الفيزيائي الذي تساءل عن الأبعاد الفلسفية والإبيستمولوجية لنظرياتنا العلمية (بالذات في نقاشه مع الفيزيائي الشهير نيلز بوهر Niels Bohr)، هو العبقري المتواضع صاحب الظل الخفيف، وفوق كل شيء هو الإنسان الذي عاش خلال حربين قتلتا الملايين ودمرتا دولا ومجتمعات بأكملها، لكنهما لم تنجحا في تشويه إنسانيته وفكره٠ خروننجن, هولندا.تشرين الثاني ٢٠١٥ سألني أحد الأقارب الأعزاء عبر الفيسبوك السؤال التالي: أي جدوى من علم الفضاء إذا كان بعض علمائه يؤمنون أن نشأته قد تمت بكلمة من الله؟ في البداية ترددت كثيرا الإجابة على هذا السؤال بشكل علني لأسباب أذكرها لاحقا, ولكن لأهمية مثل هذه الأسئلة ومركزيتها في حياتنا قررت أن أجيب قريبي العزيز برسالة مفتوحة. أود أن أنوه بأني لن أجيب على هذا السؤال مباشرةَ بل سأتطرق بشكل عام لقواعد العلم الحديث, وكيفية ممارسته وعلاقته بالدين. بالإضافة لذلك فمُنْطَلقي في الرد هو من موقعي كفيزيائي فلك وعالم طبيعة مهتم بفلسفة العلوم وكيفية فهمنا كبشر للواقع الموضوعي. هذا بالإضافة لاهتمامي, كأغلب الناس, بفهم موقعنا في الكون وسبب وجودنا فيه.
−−−−
عزيزي خليل,
تقبل في البداية اعتذاري لتأخري في الرد عليك. فالحقيقة أن انشغالاتي، الشخصية والمهنية، بالرغم من كثرتها ما هي الّا سبب جزئي لهذا التأخر. أحد أسباب تأخرّي هو امتناعي إجمالاً عن الخوض في موضوع جدّي ومعقد كالذي طرحتَهُ من خلال الفيسبوك أو أي وسط تواصل اجتماعي عام. فهذا الوسط في صميم طبيعته تلغرافي, آني, سطحي وغالبا عاطفي وتناحري. فهو يمحو الحواجز بين الرأي العقلاني والمتهور, العميق والسطحي, الممجوج والمبتكر, الخاص والعام. ولكن بما أن سؤالك يمس موضوعاَ يهمني كثيراَ على المستوى الفلسفي والفكري فقد قررت أن أرد عليك بواسطة هذه العجالة التي ربما توضح بعض الأمور ولكنها بنفس الوقت, على الأقل هذا ما آمله, تثير تساؤلات أكبر وأعمق. الإجابة المختصرة لسؤالك هي أن وظيفة عاِلم الطبيعة هي فهم الطبيعة وقوانينها وكيف تتفاعل هذه القوانين مع بعضها البعض. فصناعة العلم لا تصبو إلى تبرير هذا العرف الاجتماعي أو ذاك المعتقد الديني. فجوهر البحث العلمي هو التساؤل والشك وتحدي المعارف والنظريات القائمة, وليس مجرد تأكيد ما هو مقبول مُسْبقا علميا أو اجتماعيا أو دينياً. إذا كانت الإجابة على التساؤلات العلمية معروفة مسبقا, فما الهدف إذاً من العملية العلمية؟ فممارسة العلم عندها تصبح ممجوجة, فارغة المضمون, واهنه عن التحدي, لا تخلق الجديد ولا تُعمِّق في دراسة المجهول. فالعالِم حينها يصبح كالسفينة التي لا تترك مينائها خوفا من ما ينتظرها في أعالي البحار أو في الطرف الآخر من المحيط. فهذا النوع من "العلم" لا يساهم بزيادة المعرفة, إنما هو أداة لتكريس الجهل. هذا الالتباس في دور العلم يهدد الدين بنفس القدر الذي به يهدد العلم. فعندما يدّعي البعض أن دينه يتنبأ بواقع أو حدث معين وهذا الحدث لا يتحقق على أرض الواقع يفقد هذا الدين مصداقيته. هذا ما حدث على مدار التاريخ البشري مراراَ وتكراراَ. فعندما يقال لنا مثلاً أن هناك نصا دينيا معيّنا يدعم نظرية الانفجار الكبير, فماذا نفعل بهذا النص إذا ما اكتشف العلماء نظرية أفضل من نظرية الانفجار الكبير أو رصدوا ظواهر جديدة توضح بأن الانفجار الكبير لم يحدث أبداً, كما يحدث أحيانا للنظريات العلمية؟ هل هذا يعني أن النص الديني خاطئ من أساسه؟ إن هذه البلبلة في دور العلم ودور الدين هي بلبله مدمرة للطرفين! العلم الحديث يمارَس إجمالاً من خلال ما يسمى "المنهج العلمي" (The Scientific Method). تعود جذور هذا المنهج إلى أعمال أبو الكيمياء, جابر بن حيان, الذي كان أول من شدد على دور التجربة في دراسة الكيمياء. و أبحاث ابن الهيثم في علم البصريات الذي أدخل معايير صارمة لكيفية القيام بالتجارب, ولاحقا لفلسفة روجر بيكون الذي عمم استعمال الاستدلال الاستقرائي (Inductive reasoning) في العلوم الطبيعية. تَبَلوَر المنهج العلمي ليأخذ شكله العصري في القرن ال١٧, إثر الثورة الكوبرنيكية (نسبة للعالم البولندي نيكولاس كوبرنيكوس) التي جزمت بأن الشمس, لا الأرض, هي مركز المجموعة الشمسية. وقد اكتملت هذه الثورة بدراسة كبلر لمدارات الكواكب السيارة حول الشمس واكتشاف غاليليو لأقمار تدور حول المُشتري, وتتوجت بإنجازات نيوتن الكبيرة, الذي وضع أسس الفيزياء الميكانيكية واكتشف قانون الجاذبية. ومنذ ذلك الوقت أصبح المنهج العلمي حجر الأساس في الإنتاج العلمي في العلوم الطبيعية (والعلوم الاجتماعية, أو على الأقل تلك منها التي تَدَّعي العلمية). وهذا المنهج يقضي بأن البحث العلمي هو عملية مستمرة تتضمن عدد من الخطوات. أستعين فيما يلي بمثال لتوضيح هذه الخطوات, وهو مثال واقعي, وإن كان جزءٌ من التجارب والأرقام التي أذكرها بصدده من محض خيالي, يهدف فقط للتوضيح. أما الخطوات المختلفة فهي كالتالي:
لاحظ أن العملية العلمية لا تنتهي, فبالرغم من انتهاء الأسئلة والتجارب التي نفحص بها نظريه معينه في مرحلة ما, هذا لا يعني أنّا برهَنّا النظرية! فهناك دائما المجال لظهور حقائق جديدة غير متوقعة تجعلنا نتساءل من جديده عن صحة النظرية! فبعكس النظريات الرياضية (التي تستند على الاستنباط, Deduction), لا يمكن أبداً أن نبرهن النظريات العلمية (التي تستند على الاستقراء, Induction), فهناك دائما, ولو ذرة, من الشكّ. إذا فبحسب هذا المنهج, فإن صناعة العلم الأساسية هي البحث عن القوانين التي تحكم الطبيعة وتفسير الظواهر المختلفة بواسطة تلك القوانين. فهو يفرض مسبقا بأنه من الممكن للإنسان معرفة الطبيعة وإدراكها. أي أن محدودية وَعْيِنا هي ليست اعتبارا في عملية المعرفة العلمية. ثانيا يفترض هذا المنهج, وبشكل أساسي, بأن الطبيعة تحوي نفسها. أي أن كل ما تَدرُسُه العلوم الطبيعية تحكمه قوانين الطبيعة, فلا يوجد شيء فوق هذه القوانين أو خارجها. هذه القوانين لا تتغير مع تغير الزمان والمكان (بالرغم من تغير فهمنا لها عبر العصور). أي أن القوانين التي حكمت الكون منذ مليارات السنين, هي القوانين عينها التي تحكم الطبيعة الآن وهي ما سيحكمها في المستقبل البعيد. فالعلم لا يسأل مثلا ما سبب وجود الطبيعة, أو ما هو هدف وجودها. أنه يبحثها لأنها موجودة ونحن جزءٌ منها! أي باختصار, بالنسبة للعلم, الطبيعة وقوانينها هي كل ما هنالك! بالطبع هناك الكثير مما يمكن أن يناقش في أصول الفرضيات الأساسية في المنهج العلمي − التي قد يكون بعضها ميتافيزيائياً− أو بكيفية عمل هذا المنهج. فهذا هو الشغل الشاغل لمجال فلسفة العلوم الذي يحاول العاملون فيه فهم ماهية "الحقائق" العلمية ومعناها, ودراسة كنه مفهوم النظرية العلمية وكيف تتطور, والتساؤل حول حدود المعرفة العلمية, الخ. وبالرغم من التيارات الكثيرة في هذا المجال فالإجماع العام هو أن العلوم تتعامل مع الحقائق الموضوعية ولا مكان للغيبيات بها. التوفيق ما بين النظريات العلمية و التصور الديني هو ليس من وظيفة عالم الطبيعة بل هو من مهام رجال الدين والفلاسفة. وهذا التوفيق ليس سهلا أو مفروغاً ضمنا, هذا إذا كان ممكناَ على الإطلاق. فهناك توجهات دينية عديدة لمحاولة التوفيق بينهما. ففي الطرف الأقصى هناك التيارات −التي كما يظهر, للأسف, تطغى على الفهم الديني في العالم العربي− التي ترفض الحقائق الموضوعية والنظريات العلمية جملة وتفصيلا. وفي الطرف الأقصى الآخر التيارات التي تقضي بأن العلوم وقوانينها لا تمتّ بصلة للدين, والدين لا يمتّ بصلة للعلوم, فلكل منهما حيزه الذي لا يتقاطع مع الحيز الآخر. وهناك بين هذين التفسيرين تفسيرات أخرى عديدة. على أية حال, محاولات التوفيق هذه لا تمت بصلة للعالم وصناعته, فهي بجوهرها محاولات غير علمية (هذا لا يعني أنها غير مجدية أو خاطئة). فعالم الطبيعة عندما يدخل إلى مختبره أو يستعمل مرصاده, لا يتساءل إذا ما كانت نتيجة تجربته أو رصده مقبولة على أعراف مجتمعه, أو تتناقض مع آرائه الفكرية المسبقة, أو تتعارض مع تعاليم هذا الدين أو ذاك. فعلى سبيل المثال عندما أكتشف العلماء أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس, تعارض اكتشافهم مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية. هذا التعارض لم يجعل نتائجهم خاطئة, بالرغم من الثمن الكبير الذي دفعه بعضهم (فعلى سبيل المثال, جاليليو حوكِمَ بالسجن المنزلي حتى مماته وجوردانو برونو أُحرِق حياً), بل على العكس أجبرت نتائجهم مع مرور الوقت الكنيسة الكاثوليكية على أن تتراجع وأن تغير توجهها للعلوم جذرياً, فهي اليوم تقبل تقريبا كل ما هو متفق عليه علميا (بضمنها نظرية داروين لنشوء الأنواع!). وهناك العديد العديد من الأمثلة الأخرى لمثل هذا التصادم في التاريخ التي انتهت دائماً بخسارة موقف السلطة الدينية. فنحن كعلماء نبحث فيما هو موجود موضوعيا وليس فيما فُرِض وجوده مُسبقاً أو مرغوب به من قبل هذا الدين أو تلك العقيدة. هذا بالطبع لا يعني بشكل تلقائي أن العلماء ملحدين. فهناك الكثير من العلماء المؤمنين من كافة الأديان. فلكل إنسان, بغض النظر عن مهنته, موقف من الدين. هناك فصل واضح بين قصص الدين, أيُّ دين, المتعلقة بالطبيعة, وسؤال وجود خالق أو عدمه! فقصص الدين, وبالذات تلك التي تتعلق بخلق العالم المادي وطبيعته تتناقض مع ما نجده علميا, هذا بالإضافة لتناقضها مع بعضها البعض! فأي قصة من قصص الخلق لآلاف الأديان التي تبناها البشر عبر تاريخهم هي الصحيحة؟ لا نستطيع أن نجزم موضوعيا! في حين أن المنهج العلمي وحده هو الذي يزودنا بالأدوات الموضوعية لبناء تصور حول أصل الكون ومبناه. أما بالنسبة لسؤال وجود خالق أو عدمه فنحن نعلم فلسفيا أنّا لا نستطيع الإجابة على هذا السؤال. ما أود تأكيده هنا, أنه أياَ كان الموقف من هذا السؤال, فهو بصميمه ليس علميا! هذا لا يعني أن هذا الموقف أو ذاك خاطئ (أحد هذين الموقفين يجب أن يكون صحيحاَ), بل يعني فقط أننا لا نستطيع أن نحسم جوهر المسألة علمياً, أي باستخدام المنهج العلمي. جَزَم فيلسوف العلوم كارل بوبر في كتابه الشهير "منطق البحث", أن الشاغل الأساسي لعالِم الطبيعة, إن كان مدركا لذلك أم لا, هو دحض النظريات العلمية المقبولة وليس إثباتها. فبحسب طريقة بوبر, لكي تكون النظرية علمية عليها أن تتنبأ بما يمكن فحصه ودحضه من خلال التجارب. هذا هو برأيي جوهر العلم الحديث, فهو يفحص كل نظرية مرارا وتكرارا, دائم التساؤل والشك بما هو مقبول! فما يميز العلوم الحديثة, هو ليس فقط فهمها للواقع بشكل حذر وموضوعي. وليس فقط الثورة الكبيرة التي أحدثتها في حياة الإنسان التي أدّت إلى تطوره التكنولوجي الهائل في القرون الثلاثة الأخيرة. بل أساسها هو في إدراكنا بأن ما نعرفه قابل دائماً للتغير والتعديل, وفي الأساس أنه ليس هناك معرفة مطلقة لا شك فيها. فالتزاوج بين ما هو في صُلبه مبني على التساؤل وعلى تحدي الأعراف المقبولة (العلم) وبين ما هو في صُلبه مطلق لا يتغير (الدين) هو تزاوج بين متناقضات!
خروننجن, هولندا. آب ٢٠١٥
|
سليم زاروبي
|